٢٦‏/٠٦‏/٢٠١١

مقالات منوعة

السواد الأعظم لمن يستمعون ؟

فهد العيبان 



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه وبعد

فليس من عادتي الدخول في الردود والتعقيبات ولست من فرسانها، لكن من خلال متابعتي للمشهد السعودي وبالأخص في هذه الأيام الساخنة يأخذني العجب كثيراً من بعض حاملي الفكر الليبرالي "المضروب = الموشوم" وذلك في كيفية تناولهم لقضايا المجتمع، ومع كثرة تناقضاتهم وقلة إنصافهم وعدم مصداقيتهم في الطرح، فلن أستطيع الوقوف مع كل هذه القضايا والمتناقضات، إلا أنه لفت انتباهي حالة غريبة تعتري كثيراً من الكتاب الليبراليين في أثناء تناولهم لقضايا النزاع مع المجتمع المسلم ، هذه الحالة هي حالة من الزهو والانتفاخ الكاذب والادعاء المجرَّد من الدليل، بل والمخالف للواقع أيضاً، يلحظها كل من ينظر في أطروحاتهم ومحاوراتهم مع مخالفيهم حتى  أصبحت سمة بارزة لا تكاد تخلو منها مقالة من مقالاتهم، حيث يوحون للقاريء أو يصرحون أحياناً بأن المجتمع في غالب فئاته وطبقاته ليسوا  إلا جمهورهم وسوادهم الأعظم الذي يستمع لهم ويقتفي أثرهم ويملأ نواديهم وقاعات محاضراتهم وأمسياتهم ويهتف بالدعاء لهم ويتمنى أن تكون الكلمة الأولى لهم وأن يحملوا لواء الإصلاح في البلد ... وأن هذا المجتمع لا يدور في فلك أهل العلم ولا يستمع لما يسطرونه من فتاوى ولا يلتفت إلى ما يبثه الدعاة "الإسلامويون!! " من خطاب وتوجيه إسلامي، لأنه بزعمهم قد ولى زمن الوصاية الدينية، بل على العكس من ذلك كله، فكافة أفراد المجتمع؛ وجوههم وأفئدتهم ملتفتة إلى ما يقوله الإصلاحيون النخبويون من الليبراليين من كتاب وصحفيين ومفكرين ... الخ ، وأن المؤسسة الدينية والوصاية الدينية على المجتمع تآكلت إلى حد كبير، وأن هؤلاء المشايخ "التقليديين" ومن يصطف خلفهم ما هم إلا فئة قليلة ليس لها أي ثقل في المجتمع، أو كما عبّر عن ذلك أحد الموتورين من الليبراليين في صحيفة الجزيرة واصفاً من يعارضون قيادة المرأة للسيارة بأنهم "مجموعة متناهية الصغر" لا ينبغي للدولة أن تسمع لهم ،، بل ويحاول هؤلاء المنتفخون ـ بشيء من لحن  القول ـ إظهار أن المجتمع السعودي مجتمع منفتح يتوق للحرية ـ على المفهوم الليبرالي ـ إلا أن المانع له من الانطلاق في فضاء الحرية الليبرالية هو أنه مكبَّل بالوصاية الدينية التي يفرضها عليه "الإسلامويون!!" أو "الصحويون!!"، إلى آخر تلك المنظومة المتعالية من الادعاءات والأمنيات والتوهمات التي يملؤن بها مقالاتهم ،،، وإن هذا والله لأمر مضحك ويدعو إلى العجب والشفقة على هذه العقلية التي يفكر بها هؤلاء "النخبة" ، وفي الحقيقة من يتذكر ما كان عليه سلفهم لا يعجب كثيراً ، فقد كان لكبير المنافقين ابن سلول موقفٌ مشابه في المدينة، حيث كان منتفخاً يتوهم هو ومن معه أنهم هم أهل القوة والعزة والمكانة في المجتمع، فقال في أثناء رجوعهم من غزوة المريسيع مع النبي ج  (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ) (المنافقون:8) ، فما أمهله الله كثيراً حتى أظهر للناس ذلته وصغر حجمه ومن معه، فما دخل المدينة إلا وعليه لباس الذلة والصغار مصداقاً لقوله سبحانه في تمام الآية (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) .

 وآخر ما اطلعت عليه من ذلك الانتفاخ لهؤلاء القوم مقال نشره في مجموعة عبدالعزيز قاسم البريدية (124) أحد الصحفيين بعنوان (الثورة المُضادة في السعودية: ماذا بعد <11مارس>؟)، حيث إنه مملوء بمثل هذه الحالة من الزهو والتعالي، إذ يخيل إليك وأنت تقرأ في ثنايا المقال ـ بغض النظر عن توجه الكاتب ـ ، أن المجتمع السعودي المسلم مغلوب على أمره، وأنه توَّاق إلى الإصلاح ـ بالمفهوم الليبرالي ـ الذي يبشر به أدعياء الليبرالية أو الإصلاحيون الجدد، فهذا المجتمع ـ حسب ما يوحي به كلام الكاتب ـ قد قارب الانتفاضة على التسلط والوصاية الدينية التي تمارسها عليه "المؤسسة الدينية" ، وأن هذه المؤسسة ممثلة بعلمائها ودعاتها ومصلحيها، قد بدأت في الضعف والتراجع وانحسار شعبيتها في المجتمع  .

 ولعلي أستعرض مع القاريء جملاً من هذا المقال والذي يمثل أنموذجاً لعشرات بل مئات المقالات المنشورة في صحفنا والعديد من وسائل الإعلام، ففي هذا المقال إيحاءات بل وعبارات صريحة تدل على وجود مثل هذه الحالة الغريبة من الانتفاخ والتشبع الكاذب الذي لم يُبنَ على أدلة أو قرائن مقنعة، بل هي مجرد دعاوى وأمنيات، فمن ذلك:

- قوله (يؤكد ذلك المشكلة الثقافية (الفكرية) ــ الاجتماعية التي تعانيها المؤسسة الدينية في السعودية) فهذا الكلام فيه إيحاء بفشل العلماء ومن يدور في فلكهم من الدعاة وطلاب العلم والمحتسبين، وعدم قدرتهم على القيام بالإصلاح المنشود الذي يتواكب مع المتغيرات الحاضرة .

- وقوله (إذ إنّ أغلب العارفين بالمشهد السعودي لم يتوقع تظاهر المواطنين لإسقاط النظام) وهذا فيه إيحاء بأنه ليس للعلماء دور مؤثر في إخماد المظاهرات التي كان يُرتَّبُ لها، إذ إن المجتمع في الأصل لا يرغب في التظاهر كما حدث في بقية الدول العربية، فالعارفون بالمشهد السعودي يعرفون سلفاً مزاج الشارع، ولذا لم يتوقعوا حصول مظاهرات، وفيه إيحاء أيضاً بأن الحاكم وكذا المسؤول الأول عن الأمن وسائر العلماء والعقلاء في البلد حين حذَّروا من المظاهرات وأصدروا الفتاوى بتحريمها لم يكونوا عارفين بالمشهد السعودي كما يعرفه هؤلاء الذين عناهم الكاتب بكلامه ، وكأنه يقول لا حاجة لمثل هذه التحذيرات، ولن يكون لها تأثير لو كان هناك رغبة في التظاهر .

ثم يقول بعد ذلك بكل تعامي وتعمية ـ بعد أن ركّز في مقاله فقط على المطالب التي قُدمت للملك من قبل الإصلاحيين الليبراليين أو الاصلاحيين من غير التيار الإسلامي "التقليدي"ـ  (من خلال تلك البيانات والمطالب، نستطيع أن نفهم لماذا لم يخرج السعوديون يوم 11 آذار/ مارس، خصوصاً أنّ البيانات تمثل شرائح فكرية وعمرية متنوعة وواسعة، ربما تعبّر في مجموعها عن المزاج السعودي العام.) وهو يحاول بهذا الكلام الإيحاء بأن عدم خروج المظاهرات ليس من أسبابه وقوف العلماء ضدها، ولا أن هذا المجتمع محافظ يجتنب ما فيه مخالفة للشريعة، بل لم يتظاهر بسبب شيء آخر غير ذلك ، ثم أوحى للقاريء بأن الليبراليين والإصلاحيين غير الإسلاميين "التقليديين" قد فهموا مزاج الشارع السعودي وأنهم هم الذين يمثلون هذا المزاج العام وليس العلماء والدعاة "التقليديين" كما يسميهم!! ، ثم أخذ في بيان ملامح هذا المزاج ـ والتي منها تآكل الوصاية الدينية وضعف مكانة العلماء في المجتمع ـ  من دون أن يقدم أية أدلة أو قرائن على ذلك سوى أن هذا هو مزاج  الذين قدموا هذه البيانات وبما أنهم ـ حسب دعواه ـ هم من يمثل مزاج الأكثرية فإذاً من البدهي أن يكون هذا هو رأي الأكثرية !!. ، هكذا بكل بساطة وتسطيح لعقل القاريء يتعامى الكاتب عن دور العلماء في الإصلاح، وكأن العلماء والدعاة عن المشهد ليس لهم أي دور بارز، ولم يرفعوا أي مطلب من مطالب الإصلاح !! سوى بيان وحيد ذكر أنه قام بإيصاله مجموعة تقليدية من المشايخ التقوا بأحد الأمراء الشباب في إحدى الأمسيات، وفيه مطالب كما يفهم من كلامه لا ترقى لمستوى ما رفعه النخب الفكرية !! وإن كان يتقاطع في بعضه مع بيان "دولة الحقوق والمؤسسات" !! ، ألا يحق لكل متابع منصف بعد هذا التغابي والتعامي من الكاتب أن يتسائل: أين عشرات البيانات التي قدمها العلماء والدعاة وتناقلتها وسائل الإعلام ؟! ، بل أين وثيقة الإصلاح الشهيرة، التي قُدمت للملك قبل نحو ستة أعوام؟! ثم نشرت مؤخراً، والتي لا أعلم أن أحداً من الإصلاحيين وبالأخص الليبراليين منهم قد قدم مثلها في شمولها وتفصيلها، لماذا اقتصر الكاتب في مقاله على بيان سري وحيد لأهل العلم ليس هو من البيانات المشهورة المنشورة عنهم؟! ولماذا عرض هذا البيان بهذا الأسلوب الذي يوحي لك بسطحيته وأنه لا يرقى لمستوى ما رفعه بقية "النخب الإصلاحية"؟!! ، ثم هؤلاء المشايخ والدعاة "التقليديين" الذين ملؤوا الدنيا حضوراً وتأثيراً في المساجد والمنتديات والفضائيات، وتزاحم الناس على الاستماع لهم وتتبع نتاجهم العلمي والدعوي، هل يُصدّق أي متابع للحراك في البلد أن هؤلاء ليس لهم أرضية واسعة في هذا المجتمع ولا يمثلون مزاجه العام ؟! وإنما يمثله هؤلاء الشرذمة القليلة من أصحاب الفكر الليبرالي "الموشوم"!! .

 إذا كان الأمر كما يزعم الكاتب وغيره ، فما الذي يؤخِّر إذاً حركة التغريب في البلد؟ ومن الذي يقف في وجه مشاريع "النخب الليبرالية"التغريبية ويجعلها تتراجع؟ ما دام أن هذه النخب الليبرالية هي التي تمثل مزاج المجتمع ، وأن المجتمع في سواده الأعظم يستمع لهم وأن " الثقافة الليبرالية أزاحت الفكر المحافظ جانباً " كما يزعم في مقاله ؟!!، وإذا كان كما يقول أيضاً فما الذي يجعل الملك يصدر حزماً من القرارات يُفهم منها بلا ريب أنها مكافأة "للمؤسسة الدينية" التي وقفت بصدق وديانة في وجه المظاهرات، والتي تمثل حقيقة السواد الأعظم الذي يراد إرضاؤه، إذ لو كان مزاج الشارع مع التيار الليبرالي كما يتشبع بذلك الكاتب وغيره لكان من بداهة العقل ومن الحنكة السياسية أن تقدم الدولة حزمة من الإصلاحات وفق ما ينادي به هؤلاء الليبراليون الذين يمثلون الشارع العام بزعمهم ، لا أن تقوم الدولة بمخالفة رغبة السواد الأعظم، فتقدم هذه الحزمة من الإصلاحات لمن لا يمثل إلا الأقلية، فهل هذا الفعل لو كان ـ حسب توصيف الكاتب ـ إلا غباء سياسي ممن اتخذ القرار ؟! لأن هذه الحزم من القرارات لن تزيد الشارع إلا توتراً وحنقاً واحتقاناً لمخالفتها مزاجه ورغبته، في حين أنها ما أُصدرت إلا لإرضائه!! .

- (سأل أحد الحاضرين الذين ناهزوا الأربعين عالماً وداعية، أغلبهم تقليديون)، (يبدو واضحاً أنّ مطالب تلك المجموعة التقليديةلاحظ الوصف للمصلحين من العلماء والدعاة بأنهم مجموعة وأنها تقليدية، وهذا فيه إيحاء بأنهم قليلون عدداً وشأناً ، بينما انظر كيف يصف الإصلاحيين الآخرين بما يوحي لك بالتميز عدداً ومكانة وتفهماً للواقع (رفعت النخب الفكرية في المملكة مطالب عدّة إلى الملك، تفاعلاً مع التطورات التي تشهدها المنطقة).

( إنّ الثقافة الليبرالية أزاحت الفكر المحافظ جانباً. فبعدما كان عدد الموقعين على تلك البيانات والمطالب لا يتجاوز المئات، بدا واضحاً إقبال الآلاف على تأييد مطالب الإصلاح الليبرالية) ، ( لن يتناغم مع مجتمع تكرست، أو بدأت تتكرس فيه الروح الليبرالية وقيم التنوير والوعي) ، (تجاهل مطالب الإصلاح السياسي أكد تقدم فكر النخبة ـ الذي حظي بتأييد شرائح واسعة من المواطنين ـ على الفكر الرسمي)

 هذه الجمل من كلام الكاتب فيها تصريح وليس إيحاء بأن الثقافة الليبرالية هي السائدة في المجتمع السعودي !! وأن المجتمع قد خلع عنه عباءة المحافظة والتدين!! سبحان ربي أين يعيش هذا الكاتب ؟!، وكيف يقرأ المشهد من حوله ؟! ألم يشاهد أي حضور للثقافة الشرعية المحافظة من خلال أي منشط من مناشط المجتمع ؟ كالفعاليات والمنتديات والبرامج الدعوية التي تزدحم بعشرات الآلاف من الناس؟، من أين أتى هؤلاء ؟، وما سبب إقبالهم على هذه المناشط الدينية؟ ما دام أن ثقافتهم غلب عليها الفكر الليبرالي، ثم أين هذا التأييد لأصحاب الطرح الليبرالي الذي يدعيه من قبل شرائح واسعة من المجتمع ؟ وأين هو من كثير من الإحصائيات والمناشط التي أظهرت ضآلة وحجم هذا التيار المريض ؟! .

-   (وازداد التعاطف الاجتماعي مع هؤلاء السيدات ومطلبهن، بعد اعتقال الناشطة منال الشريف في المنطقة الشرقية) ، هذا الكلام مجرد ادعاء، وإلا فأين دلائل هذا التعاطف الاجتماعي المتوهم ؟، هل هناك إحصائيات تدل عليه، أو قرائن تشير إليه ، أم هو الانتفاخ الكاذب !، ولعل أبسط ما يرد على هذا التوهم ما ظهر مؤخراً في التصويت الذي أجراه برنامج البيان التالي في قناة دليل بتاريخ24/6/1432هـ وكانت النتيجة 93% يرفضون قيادة المرأة للسيارة، وقبلها الإستبانة النسائية التي نشرتها مجلة الحرس الوطني التابعة للتوجيه في شهر جماد الأول عام 1427هـ وكانت النتيجة 88% من النساء يرفضن قيادة السيارة ، ومثل ذلك ما نشرته صحيفة الحياة في 16-3-2011في مقابلة مع رئيس لجنة حقوق الإنسان والعرائض في مجلس الشورى السعودي الدكتور مشعل العلي حيث ذكر أن اللجنة تلقت نحو 1000 احتجاج من مواطنين ـ كثير منهم أكاديميون وأكاديميات ـ ، ضد قيادة المرأة السيارة، بينما وافق عليها نحو 300 شخص. وذكر أن النساء يشكلن الغالبية الرافضة، تخوفاً من انتشار الفساد، أليس هذا كله وغيره من الدلائل يُعد مثالاً فاضحاً لهذا التعامي المتعمد من قبل الليبراليين لحقيقة المزاج السعودي والجهة المؤثرة فيه .

-   ( الوصاية الدينية على المجتمع تآكلت إلى حد كبير، وأصبحت عبئاً على القيادة السياسية) ، (بدا أنّ تحولات المجتمع السعودي لا تصل بدقّة إلى القيادة السياسية. فالحرص على دعم الأجهزة الدينية بمبالغ عالية جداً، وفرض حصانة إعلامية ـ ليس لها أي سابقة في كل التاريخ الإسلامي، ولا يمكن تبريرها ـ على المفتي وأعضاء هيئة كبار العلماء، يدل على إصرار الفكر الرسمي على وسم المجتمع السعودي بالمحافظة. في ذلك الوقت، تتآكل الوصاية الدينية داخل المجتمع، ولا تحظى بالقبول. وكأنّ الفكر الرسمي لا يعرف هذا التحوّل، أو لا يعترف به، وهذا الكلام فيه عدة مجازفات وتوهمات : منها : أن المجتمع يُقاد بوصاية دينية وليس عن قناعة منه بالتدين ولا عن رغبة تعبدية لله باتباع أهل العلم وسؤالهم والأخذ عنهم ، ومنها : دعوى تآكل مكانة أهل العلم في المجتمع وعدم السماع لهم، ومنها : أن المجتمع ليس في حقيقته مجتمعاً محافظاً ولا يريد ذلك ، وإنما الفكر الرسمي يفرض عليه التدين بالقوة . ومنها: أن القيادة السياسية بلغت من الغفلة أنها لا تعي تحولات المجتمع ،أو أن أجهزتها العاملة معها، إما أنها خائبة أو خائنة لا توصل لها بدقة تحولات المجتمع ؟! وهذا الكلام مع خطورته، فهو أيضاً متهافت وممجوج يكذبه وينقضه واقع المجتمع ، ولا يحتاج لعناء البحث عن أدلة لنقضه، فشواهد الحال أكثر من أن تحصر، يشاهدها كل من كان له أدنى بصيرة وإنصاف حتى من كان خارج هذه البلاد فكيف بمن يعيش فيها !! .

تأمل معي أيها المنصف شيئاً من هذه القرائن والأدلة التي تظهر مكانة الفكر الليبرالي في المجتمع وعند السواد الأعظم منه :

1. فتاوى العلماء بتحريم الربا والمساهمات المحرمة وغيرها من المعاملات المالية المخالفة للشرع، اضطرت معها المؤسسات المالية  إلى التماشي مع رغبة الجمهور الذي يتقيد بهذه الفتاوى ، حيث قامت أكثر هذه المؤسسات بأسلمة كياناتها وتصحيح معظم معاملاتها المالية، بل والتسابق إلى تغيير الصورة السابقة "الربوية" عبر بث الدعايات التي تؤكد شرعية معاملاتها، والحرص على وجود علماء وباحثين شرعيين لتحقيق ذلك وطمأنة نفوس عملائهم.

2. نتائج الانتخابات البلدية الأولى في المملكة، حيث الكلمة المسموعة كانت لأهل العلم والمحافظين في جميع المواقع، بينما (الليبراليون لم ينجح أحد!!).

3. فشل ما يسمى بـ "ثورة حنين" التي تنادى لها مؤخراً الرافضة وأعوانهم من الليبراليين، حيث اصطف السواد الأعظم من المجتمع مع علمائهم في مواجهة هذه الثورة.

4. انتشار وتوسع البرامج الإعلامية التي يقوم بها أهل العلم والدعوة، وكثرة مشاهديها حتى أصبح كثير منها متفوقاً في كثرة المتابعين على كثير من البرامج الفضائية الأخرى .

5. ضخامة الحضور للمناشط والملتقيات الدعوية والثقافية التي يقيمها  أهل العلم والدعوة، بينما الملتقيات الثقافية التي يقيمها غيرهم من أصحاب التوجهات المشبوهة أو غير المحافظة بقيت خاوية على عروشها!! .

6. اندحار الأحزاب الليبرالية في كثير من انتخابات البلاد العربية والإسلامية، مع ما أحدثه الاستعمار من تغريب في تلك الشعوب، ومع ما بيد هذه الأحزاب الليبرالية من إمكانيات، ودعم خارجي!! ومع هذا كله تفوق التيار الإسلامي.. فهل يظن عاقل بعد ذلك أن يكون لليبرالية المحلية مكان في مهبط الوحي وأرض الرسالة التي لم تدنسها يد الاستعمار من قبل؟!.

والشواهد غير هذه كثيرة جداً ،، ومع هذا فأنا لا أزعم أن المجتمع السعودي مجتمعٌ محافظ من جميع النواحي، وأنه لم يحدث له أي تأثر في سلوكه وتدينه بهذه المتغيرات العالمية ، أو أنه لا يحيد عن كلام أهل العلم قيد أنملة، إلا أنه لا يمكن أن يقبل المنصف الذي يحترم عقله وعقول الآخرين، ما يطرحه هؤلاء المنتفخون، من انحسار التدين في المجتمع وذهاب مكانة العلماء فيه، وأن الفكر الليبرالي هو الذي حلَّ هذه المكانة عند السواد الأعظم من المجتمع ، فهذا سفه وتضليل لا يقول به من غايته الوصول إلى الحق وتحقيق العدل مع من يختلف معهم.

-   (بدا أنّ الفكر الرسمي لا يزال متشبثاً بالاعتماد على التحالف مع المؤسسة الدينية والتيار الإسلاموي، بدل الاعتماد على رضا السواد الأعظم (المتحقق) من المواطنين، وهو الركيزة الأهم لأيّ نظام سياسي، حين نتحدث عن الشرعية السياسية) ، وهذا الكلام كسابقه أيضاً، فيه إيحاء وتصريح بأن "المؤسسة الدينية" و"التيار الإسلاموي" بينها وبين السواد الأعظم من المجتمع انصال، فالمجتمع لا يتفق معهم فكراً ، ولا توجهاً ، ولا منهجاً ، وأن السواد الأعظم يتماشى مع ما يطرحه التيار الليبرالي، ويرضى به ،، وأنا أتعجب وأتساءل : عن أي مجتمع يتحدثون ؟ وأي سواد يقصدون ؟، إن كانوا يقصدون عموم الناس في المدن والقرى والبوادي ، سواء كانوا متعلمين أو من العامة ، والذين يمثلون السواد الأعظم في هذه البلاد حقيقة ، فهؤلاء لا تسمع منهم غالباً في مجالسهم ومنتدياتهم إلا ما يدل على حب التدين والمحافظة وتقدير العلماء والاستماع لهم ، ولا تسمع منهم شيئاً يدل على رغبتهم أو اهتمامهم بهذه المخلفات والأفكار الليبرالية بل إن كثيراً منهم لم يسمع بها قط ويستبشعها لو ذكرت عنده، فكيف له أن ينادي بها أو أن يحتفي بأصحابها! .

أما إن كانوا يقصدون بالسواد الأعظم، هم بضعة آلاف ممن يتواصلون معهم في العالم الافتراض من خلال المنتديات ومواقع التواصل الاجتماعي ، فهؤلاء لا أظن منصفاً محايداً يعوّل عليهم وحدهم في قياس حراك المجتمع وتحديد مزاجه العام .

فمن خلال ما تقدم من دلائل وقرائن يظهر لنا بجلاء لمن تكون له الكلمة في المجتمع ، ولمن يستمع له السواد الأعظم ، وهذه القرائن والظواهر والصور أيضاً كلها تدل بما لا يدع مجالاً للشك أن هذا المجتمع مجتمع محافظ في غالبه، وهو مع علمائه ودعاته يُحبهم ويُجلّهم ويحيط بهم ، فهذا السواد الأعظم رجالاً ونساءً شيباً وشباباً في المدن والقرى، حتى المقصِّر منهم في حق ربه، كلهم أو غالبهم يشعر بالانتماء الصادق لهذا الدين ولعلمائه، يَصدرون عن كلمتهم ويستمعون لفتاواهم ويعلمون يقيناً أن نجاتهم عند الله إنما تكون باتباع سبيل المؤمنين الصراط المستقيم، والذي يمثله حقيقة علماء الشريعة الربانيون ، ولا يمكن لأحد أن يدّعي بعد ذلك أن هذا المجتمع المحافظ يعتقد بأن الليبراليين يسلكون سبيل المؤمنين فضلاً أن يكونوا هم الأقرب إلى سلوك هذا السبيل من علماء الشريعة الربانيين الذين أمرنا الله بسؤالهم بقوله (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل: 43)،وأمرنا بموالاتهم في قوله (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (التوبة:71) ، ومن يتابع حراك هذا المجتمع من خارج البلاد من الغربيين المنصفين وغيرهم من الباحثين الجادين، تجده يضحك على قراءة هؤلاء الليبراليين السطحية لواقع مجتمعهم، حين يحاولون تصوير المجتمع السعودي للعالم على أنه مجتمع غير محافظ أو غير متدين أو أن علماء الشريعة ضعفت مكانتهم عنده .

 

ختــــــــاماَ ،،،

أقول معزياً العقلاء : إن من يقرأ القرآن متدبراً لكلام ربه، ويقرأ سير الأنبياء والمصلحين على مدار التاريخ، تَحْدُث عنده قناعة يقينية بأن دين الله هو الغالب على الدين كله، وعلى الأفكار كلها، وأن أولياء الله أتباع رسله هم الغالبون، كما قال ربنا سبحانه (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) (غافر: 51) ،(وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) (الصافات: 173)،، وأن النصر الذي وعده الله أولياءه لن يكون  على يد طائفة تميع الدين أو تحرفه وتداهن فيه، بل يكون النصر والتمكين بمن عناهم الله بقوله (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) (41،الحج)،، وأن دين الله لا يمكن أن يُطفيء نوره المنافقون الذين يمتهنون الكذب وتزييف الحقائق، ويَفْجُرون في الخصومة ويجانبون العدل، ويتّبعون الهوى، كما قال سبحانه (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) ( الصف:8) (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) (36،الأنفال) ،، وأن هؤلاء المنافقين مع وضوح الحق وظهوره لهم، إلا أنهم يتبعون الهوى، وقد زُيّن لهم سوء عملهم وزين لهم مكرهم، فتلبَّسهم الكبرُ والعجب فصُدوا عن السبيل، فهم أبعد ما يكونون عن الهداية، كما قال ربنا سبحانه (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (الرعد:33) (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) (فاطر:8) .

والله الهادي سواء السبيل ،،،،





أفُـول القيم

بقلم مشاري بن سعد الشثري

مقال رائع

وخاصة لرواد صفحات الفيس بوك والتويتر

  

في دساتير الأدبِ العتيقةِ قولُهم: الليلُ أخفى للويْل ..

أما ليلتي هذه فحمَّالةُ الحطب، نادى منادٍ: أن جُد بزَورة على إخوانك المربِّين في جنبات الشبكات الاجتماعية ..

درجت .. فإذا الجنباتُ مقاتل، فاتَّقد الحطب نارًا، واشتعل الرأس شيبا ..

(1)

لم يجعل الله تعالى كتابَه حجةً على قوم إلا برسول يبعثه إليهم، يبلغهم البلاغَ القوليَّ بتلاوة آياته، والعمليَّ بتمثّل أحكامه .. فاصطفى - سبحانه - من الناس رسلًا كرامًا، حتى ختم الرسالات بمحمد عليه الصلاة والسلام، فبلغ البلاغَينِ وَفقا لأمر ربه، فكان من بلاغة أم المؤمنين عائشةَ - رضي الله عنها - حين سئلت عن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ قالت: (كان خلقه القرآن) ..

لم يهنأ عليه الصلاة والسلام بنومٍ مذ سمع قول الحق تعالى: (قُمْ فأنذر) .. عِقدَينِ من الزمان خلت معاجمها من تصاريف الراحة والسكون، فالعمل هو الحياة، وبعد الفراغِ النَّصَب، وإلى الله الرَّغب، فأنجبت تلك التربية النبوية جيلَ الصحابة، ثم هم رسموا شخوص التابعين، فحدَّثتنا سِيَرُهم ضِعفَ ما بُلِّغنا من قولهم ..

وهكذا، ما زال الخالف يأخذ عن السالف .. وذِهِ التربية، تصنع المتربي لتجعل منه مربِّيًا، فإن استقامت استقام، وإن اعوجَّت اعوجَّ معها ..

(2)

ظهرت التقنية الحديثة فاجتالت الناسَ من مراقدهم، ووهبتهم العصا السحريّة التي بها يعقدون طرفي الأرض، وما زالت تأخذ في التطور والحداثة حتى وهبت كلًّا منهم منزلًا شبكيًّا لا يُدعى الناس إلا إليه، ولا تُقبل الصداقة إلا فيه ..

صفحات الفيس بوك أضحت منازل السائرين إلى عقد الصداقات وعرض الأفكار وإبراز المستحسن من الصور، فهي بذلك وسيلةٌ مُثلى لمد جسور التواصل مع مختلف الشرائح على هذه البسيطة، فآل الناس إليها زرافات ووحدانا، وعرض كلٌّ منهم بضاعته، فأتت طائفة بالدرّ، وجاءت أخرى ببضاعة مزجاة، وما دامت تلك الصفحات منائحَ تُوهب ولا تُباع، فلْيدبّج العيِيُّ قصيدته، ولا حاجة إلى معاودةِ النظر لإصلاح ركيكِ ألفاظها وبعيدِ أغراضها، فمنتهى الأمل أن تُعرض، فمن رضيها فله الرضى، ومن سخطها فالحجب نصيبه، ثم كان ماذا ؟

هذا الكتاب الشبكي الثقيلُ بصفحاته لا تُدرى كم قيمته ؟ فإن نظرت إلى محاسن صفحاته رفعتها، ثم لا تلبث أن ترى سيِّئَها فتهبطَ بها وتُقعقِعَها ..

والسعيدُ من تعقَّل وانتقى أطايب الثمر، وهو في ذلك يتَّقي سوءَ الصفحات الفيسبوكية، ويجعل بينه وبينها موعدًا يُخلفه كلٌّ منهما، وذلك لئلا يتروّى بتبذُّلِ أصحابها واتّباعِهم سقطَ الأقوال والأعمال ..

(3)

أَخَذَ أهلُ التربية مواقعهم من معسكر الفيسبوكيين، وسعوا جهدَهم في إيصال رسالتهم، فحققوا من ذلك الشيءَ الكثير، غير أنَّ خطلَ الدهماء قد استخفَّ نفرًا منهم فأطاعوه، فصِرتَ ترى الواحدَ منهم - وقد كان شريفَ الناس مهيبا - على مسرح الصور يتقلَّب، في مشهدٍ بائسٍ بممثلينَ سُذَّج ..

كلُّ ذلك بمحضرٍ من طلابه المتربين، فلا تسل كيف أضحى حُفَّاظُ العصرِ روّادَ المسارح ومربِّي الأمس مفاجأةَ الموسم .

هذا إلى جانبٍ من التعليقاتِ السَّمِجة، ومحاوراتٍ كالقيعان، لا تمسك ماءً ولا تُنبت كلأً ..

وأن لو استقاموا على الطريقة لكان لهيبتهم في أعين الطلبة قرار، ولكنّ واحدة الصّور تلك قد قلعت مدرجَ التلقي عند المتربي، فقُضي على توجيه مُربِّيهِ بعدم النزول، فظلَّ كلامه في السماء حيرانَ، وما هي إلا ثوانٍ حتى هوت به الريح في مكان سحيق ..

 (4)

أخذتُ أسائل نفسي عن الحصاد المرجوّ من عرض مشرفٍ تربويٍّ صورةً له مع أخلائه في نزهة برية حالَ تبذُّلِه في هيئته، أو لباسه، أو كليهما ..

وما الداعي لأن يعرِض لفيفًا من السيارات الجذّابة، قديمِها وحديثِها ؟

وأين ذاك الورعُ الباردُ في قِلاع التربية، أين هو حيالَ إبداء الإعجاب في صدور الصفحات بمنشدي الإيقاعات المحرّمة وأحلاسِ الرياضة المحلِّية، بل والعالمية ؟!

وما هذا الإسفافُ في التزيُّنِ أمام عدسة الكاميرا .. متى كان من شأن المربي أن ينشَّأ في الحلية ؟!

 هذه ونحوها يعرضها من هو على رأس العمل، أما من كانت ليلة البارحة عشيَّةَ وداعه فبعيدٌ كلَّ البعد عن حدِّ الاعتدال، وربَّما أقضَّ مضجعه تلك الليلة أن لا يعلم أحدٌ بخروجه، ثم ( ما بين غمضةِ عين وانتباهتها .. يغيِّر الله من حالٍ إلى حالِ )، الصورُ تبدَّلت، والقناعُ قد حسر عن غيرِ الوجه المألوف، وبعد أن كان ميدان الصداقة محكومًا بـ(لا يدخل بيتك إلا مؤمن) صار يتسع ليشملَ البَرَّ والفاجر، وذاك الذي كان يخشى على طلابه من الفتن الطوارق - فينهاهم عما لا بأس به خشيةً مما به بأس - صار مندوبَ التسويق لنتاج الحسناوات الصغيرات من المغنيات .. أعني المنشدات الإيقاعِيَّات .. إلى آخر مسلسلِ (أُفُولِ القيَم) بإخراج مُحكَمٍ من (المشرف التائب) !

أن يكون هذا من شأنه فقضيةٌ، أما أن يكون خروجُه تأشيرةً لنزع جلباب المروءة عن إهابه فقضية أخرى ..

 (5)

يقول خِرِّيتُ التربية وعريفُها (محمد قطب) - حفظه الله - :

(وفي الصحبةِ الطويلةِ التي تقتضيها عمليةُ التربية يستحيل علينا أن نخفيَ حقيقةَ أنفسنا، ولا بد أن ننكشف أمام الذين يتلقون منا ..

فكيف إذا اكتشفوا ذات يوم أننا كنا نخدعهم؟ أننا كنا نحدثهم بمعانٍ نفتقدها نحن، أو نشتمل على أضدادها .. كيف تكون الصدمة؟ وكيف تكون النتيجة؟)

هلَّا جعلناهم يتفردون باكتشافنا دون أن نجعل من ذواتنا مطايًا لخيباتنا ..

إن للتربية أساليبَ وأدواتٍ متنوعة، غير أنها - كلَّها - تقصُرُ دون مسلك القدوة، و لما تمَّ صلحُ الحديبية أمر النبي عليه الصلاة والسلام صحابتَه -رضوان الله عليهم - بأن ينحروا ويحلقوا، فلم يقم منهم أحد، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلم يقم منهم أحد، فاغتمَّ حتى بثَّ ما أهمَّه لزوجه أم سلمة - رضي الله عنه -، فقالت بسان الحكمة: (يا نبي الله، أتحبُّ ذلك؟ اخرجْ ثمَّ لا تُكلِّم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بُدنك وتدعوَ حالقك فيحلقك) فما هو إلا أنْ نَحَر بُدْنَه ودعا حالقَه فحلقه حتى قام الصحابةُ فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى كاد بعضُهم يقتل بعضًا غمًّا ..

ولمَّا شكى الصحابة رسولَ الله صلى الله عليه وسلَّم الجوعَ ورفعوا عن بطونهم، فإذا الواحدُ منهم يربط حجرة على بطنه من شدة ما يلاقيه من الأسى، بينا هم كذلك إذ يرفع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم سِترَ بِطنِه عن حجرين! لا حاجة بعد ذلك إلى الكلام وإسداء الخطب ..

إن للقدوة سلطانًا على قلب المتربي لا يضاهيه أيُّ سلطان، فإذا خالف إرشادُ المربي فعلَه لم يكن لإرشاده أدنى أثر، وهو أشبه ما يكون (بمن يمسك في إحدى يديه قلمًا، وفي الآخر ممحاةً، فكلَّما كتب كلامًا بيمناه محته يسراه) ..

ولئن كان من أخصِّ مقاماتِ التربية ووسائلِها مقامُ القدوة، فإن من أخصِّ صفات المربي ونعوته وصف الهيبة، والمتربي لا يزال يُجلُّ مشرفَه ويُعليه ما دام يَلحَظُ مهابته، فإذا سقطت ذهب جلال التربية وصدفَ الطالب عن شيخه .

وإذ كان ذلك كذلك، فحقيق على المربي أن يجدِّد النظرَ في مقامه، ويُحيطَه بسياجٍ من المروءة والأدب، ولا يجعلَ من نفسه هدفًا لسهام طلبته .

 (6)

فرقٌ بين حالٍ عارضة تعتري المشرفَ التربويَّ في سفرٍ أو نزهة ونحوِها تجعل منه أكثرَ تبسُّطا، وبين أن يجعل من تلك الحال محلًّا للترميزِ وإبداءِ الآراء ..

وفرقٌ بين حديثٍ تحفُّه روح الدعابة بين الطالب ومشرفه في منشطٍ ثقافيٍّ أو رياضيٍّ، وبين أن يرى الطالب ذلك هجِّيرى مشرفِه في أحاديثه وتعليقاته ..

دفعتُ إلى أحد المربِّين رسالةً خاصةً في صفحته لمّا رأيت فيها بعض ما يُنكَرُ شرعًا، وهو محل إجماع عند أهل التربية، فكان أنْ بعث إليَّ يعاتبني على هذا التزمُّت وينصحني ألا أكون مغاليًا في استقامتي حتى لا يرتدَّ ذلك عليَّ سلبًا !

لو كان للمشرفِ هوًى في مشاهدة مباراةٍ - مثلًا - فهذا شأنه، لكن أن يجعل في مفضَّلَته صورة اللاعب المفضَّلِ لديه فبليَّةٌ لا يرضاها عاقلٌ يعرف معنى التربية ..

هذا في شأن الكرة، وهي مباحة من حيثُ الأصل، لكنّ صاحبي تخطّى ذلك ليقنعني بإباحة إبراز صورةِ فتاةٍ بلغت سنَّ المحيض، وهي مع ذلك ضليعةٌ في الإنشادِ الموسيقي ! وهو مع ذلك مربٍّ يريد الرُّقيَّ بطلابه ويهيِّئهم لقيادة الأمة !

 (7)

واجبٌ على أهل التربية أن يشيعوا النصح بينهم، إن كان بالحسنى فبِها، وإلا فبتقليم الأظفار المستطيلة، فهي عُرضَةٌ للقَذَر - والبيئة التربوية أحوج ما تكون إلى اتقاء القذر -، لكن ما دام زيدٌ يصفح عن جُرمِ عمرٍو درءًا لتوتر العلاقة بينهما فقُلْ على الطلبة السلام ..

ومن الحَسَن في ذلك أن تُنشأَ معرَّفاتٌ مستعارة يحتسب أصحابها على من أخطأ، وأن يُعنى المشرفون الكبار بإذكاء عزائمِ من تحتهم وإعلامِهم بعظيم المهمة الملقاة على عاتقهم ..

البيئة التربوية اليوم بحاجة ماسَّةٍ إلى التروِّي في التصدير الإشرافي، فإن كان ولا بد من الدفعِ ببعض الضِّعاف سدًّا للفراغات فلا بد أن تُضاعف الجهود في تأهيلهم وتدريبهم .. هي قضية عظيمة التعقيد، وليست تكفي مثلُ هذه الكتابةِ لمعالجتها، لكني لا أريد أن نصل يومًا إلى صرفِ غالب الجهد في رَدمِ سقطات بعض المشرفين على حساب تربية الطلبة ..

لم أستقصِ هنا كلَّ ما يُعدُّ خرمًا في العملية التربوية، وإلا فثمَّةَ أمور تحتاج إلى أن تُدار وتُحسم، من مثلِ ارتباط مشرفٍ ما بغير طلابه على وجه يزهِّده في محضنه، أو تطويل المحاورات مع طلابه في مختلف الأوقات بحيث لا يَفقِد الطالب مشرفَه في صفحته متى ما أراده، فتتبخَّر تلك التوجيهات المتواترة في الحث على فضيلة اغتنام الوقت ورفعِ الهمَّة، أضف إلى ذلك أن التربيةَ الحقَّة تحتم ألا يستمرئ المشرفُ الوصالَ مع طالبه، فلذلك آثار لا تخفى على اللبيب ..

هذا وأنا على ثقة أن هذه الأعمالَ إنما تصدر من طائفة ليست بالعريضة، وإلا فهناك ثُلَّة من المربِّين هم في الحقيقة مصابيحُ هدًى ومناراتٌ لإبلاغ الدعوة إلى الله تعالى، وقد رأيت من ذلك ما تقر به الأعين، وأملي أن يكونوا عونًا لإخوانهم في الدلالة على هذه الصنائع المباركة ..

هذه نفثة مصدورٍ لم يُطِق كتمَها، ويستغفر الله الرحيمَ مما زلّ به القلم، فما أراد إلا الإصلاح ما استطاع ..

 

( وعلى الله قصد السبيل .. ومنها جائر .. ولو شاء لهداكم أجمعين )

 




-- 
إن عظيم الهمة لا يقنع بملء وقته بالطاعات

إنما يفكر أن لا تموت حسناته بموته


عن قيادة المرأة للسيارة

د. عبد الرحمن بن صالح العشماوي

لم أستطع متابعة ما نشر حول هذا الموضوع في صحفنا المحلية في حينه، ولكن معظم ذلك جمع لي في ملفٍّ أمكنني من الاطلاع عليه وقراءته، فخرجت بانطباع القارئ المستقصي لما كتب في الصحف، ألا وهو انطباع الشعور بالإجحاف وعدم الإنصاف، وهذه مشكلة ما زلنا نعاني منها كثيراً في معظم منشوراتنا الصحفية، حتى ليشعر القارئ أنها -في بعض الأحيان- تعيش في وادٍ، ورأي المجتمع الحقيقي في وادٍ آخر. ولولا أن القارئ الواعي يعيش في مجتمعه وبين ربعه وأهله، لظن ما تروج له تلك الصحف صواباً، وما هو بصواب، ورأياً عاماً، وما هو برأي عام. 
إن متابعتي لما كتب في الفترة الماضية في معظم الصحف عن «سأقود سيارتي بنفسي» أعطاني انطباعاً بعدم الإنصاف في طرح الموضوع، وطرح آراء أفراد المجتمع وأبناء وبنات الوطن فيه، وأكد لي وجود تناغم بين عدد ممن كتبوا وكتبن في هذا الموضوع ينطبق عليه مصطلح «أمرٌ دُبِّر بليل» وكأننا نعيش معركة حامية الوطيس داخل هذا الوطن المتألف المتكاتف، وكأن هذا الموضوع قد أصبح هو الأهم والأعظم خطراً والأكبر أثراً في بلادنا، فلم يعد هنالك -كما توحي بذلك الحملة الصحفية الملتهبة- أية قضية مهمة يمكن أن تطرح بهذا الزخم والإصرار في المجتمع غير قضية «قيادة المرأة للسيارة». 
ولست هنا بصدد مناقشة الآراء المطروحة -صحفياً- وبيان الالتحام الواضح على من له رأي ثابت في هذه المسألة من العلماء والمثقفين وطلاب العلم، والكتّاب والمفكرين -رجالاً ونساء- وعامة أفراد المجتمع، وهو رأي مؤيد بالأدلة، وبأنظمة الدولة التي تؤكد منعها لقيادة المرأة للسيارة في المملكة لأسباب كثيرة تعرفها وزارة الداخلية التي أصدرت القرار، ولأدلة شرعية أشار إليها العلماء، لست بصدد مناقشة ذلك هنا. 
إنما أردت هنا أن أوجه دعوة إلى صحفنا والقائمين عليها -وفقهم الله للخير والحق- أن يكون الإنصاف، والطرح الموضوعي هو الأسلوب الذي تطرح به مثل هذه القضية، فهذا واجب صحفي لا يجوز التفريط فيه، لأن التفريط فيه، إخلال صريح بأمانة الكلمة ومسؤوليتها. 
لقد تشكلت جبهتان متناقضتان متصارعتان في هذه القضية التي ضخِّمت تضخيماً يثير التساؤل من جانب، ويثير السخرية من جانب آخر. 
الجبهة الأولى هي جبهة الصحافة التي انجرفت -غالباً- بقضِّها وقضيضها إلى جانب التأييد الصارخ لمن أردن أن يقدن السيارة بأنفسهن مهما كان الثمن، والجبهة الثانية هي جبهة مواقع الشبكة المعلوماتية «الإنترنت» التي واجهت الجبهة الصحفية بقوة تتناسب مع قوة الطرح في الجبهة الأولى، وشعرت وأنا أتأمل حالة الجبهتين بأن هنالك خللاً في جانب «الموضوعية» في صحافتنا، فالسؤال المنطقي يقول: لماذا لم تفتح الصحف صدرها للرأي الآخر الذي لا يرى قيادة المرأة للسيارة، كما فتحته على مصاريعه كلها للرأي المعارض. 
ولماذا لا يبرز دور الصحافة العادلة الواعية جلياً في هذه القضية؟ 
أين العنوان الكبير الذي ينشر تحته قرار وزارة الداخلية مثلاً؟ 
وأين العناوين البارزة التي تُنشر تحتها آراء العلماء؟ 
لماذا تتخندق معظم الصحف في صفِّ من ينادون بخلاف ما ينادي به أغلب أفراد المجتمع؟؟ 
لماذا لم يبرز قول الشيخ ابن عثيمين -يرحمه الله- وهو قول مفصَّل واضح في هذه المسألة؟؟ لماذا نرى بعض أقوال العلماء والمفكرين المهمة التي لا ترى الانسياق وراء دعوة قيادة المرأة للسيارة في المملكة، وتطرح ذلك بأسلوب موضوعي جميل، في مواقع «الإنترنت»، ولا نراها في مواقع بارزة من صحافتنا؟. 
لماذا تتكوَّن هاتان الجبهتان المتصارعتان -الصحف والإنترنت- ونحن نسعى في بلادنا إلى ترسيخ مبدأ الحوار الموضوعي الهادف البعيد عن المزايدات؟؟ أسئلة تحتاج إلى جواب عملي منصف. 
إشارة: 
شيئاً من الإنصاف يا صحافتنا المبجَّلة.

بسم الله الرحمن الرحيم 


العالم العربي من فرض العلمنة إلى فرض العولمة

(واللاعنف بوصفه وسيلة أنجع )


بقلم: د سعد بن مطر العتيبي

5/7/1432


          مدخل : هل الثورات العربية : ظهور لمؤامرة أجنبية ؟ أو انفجار لوضع اجتماعي وسياسي محض ؟

          في هذا المقال سأحاول قراءة الثورات العربية من زاويا أخرى أشرت إلى ناظمها في العنوان ، وتتضمن التعريج على ثورات من نمط آخر ، تعتمد إحداث تغييرات دستورية أو قانونية تسبق الثورات الشعبية ؛ ولا سيما بعد اللجوء إلى هذا النمط ، في محاولة لتجاوز فشل ثورات أخرى ماتت قبل أن تلد !

وعلى كل حال ؛ فهذه القراءة للثورات ، لن تخلو من جواب على السؤال الذي استفتحت المقال به ، كما سأضطر إلى الإجمال في مواضع عديدة استهدافاً لتتابع الأفكار الرئيسة . فأقول مستعيناً بالله :


1) يعتقد بعض المحللين والمثقفين بأنَّ الثورات العربية الأخيرة أو ما يعبّر عنها بـ (الانقلابات الناعمة) ، ليست إلا مؤامرة أجنبية ؛ ومن يقرأ كتاب ( من الديكتاتورية إلى الديمقراطية ) ، لجين شارب ، الصادر عن مؤسسة ألبرت أنشتاين عام 2002م) قد يرتقي إليه الشك فيما يراه أولئك المثقفون إلى اليقين بما يقولون ؛ غير أنَّ من يقرأ الثورات ذاتها وتحولاتها ومساراتها ، سيدرك –مهما كانت خلفيته عن الواقع- أنَّ حمّالة الحطب ، قد لا تشعل النار ! وإن هي أشعلتها ، فقد لا تنتفع منها بما ترجوه من خطة دفءٍ ، ولا نضج آثار ؛ وهذا ما سيأتي بيانه في فقرة تالية إن شاء الله تعالى .

2) ولقد ظهرت الدعوة إلى (التغيير باللاعنف) على نحو جلي جدا ، بعد ظهور فكرة (الشرق الأوسط الجديد) ؛ واتخذت ثلاث مسارات رئيسة ، أُورِدها في هذه الفقرة بإيجاز ، ثم أعود إليها بشيء من البيان في الفقرات التالية :

فالمسار الأول : القضاء على آليات استخدام القوة ضد العدو (مقاومة المحتل) ! سواء كان عدواً داخلياً أو خارجياً ؛ حتى لو استهدف النفسَ والعرض .

والمسار الثاني : الثورة الشعبية السلمية ، أو التغيير من خلال اللاعنف ، والتي ترفع شعار : ( سلمية سلمية ) .

والمسار الثالث : التغيير من خلال الثورة على النظم الأساسية والدساتير والقوانين والأنظمة المحلية للبلاد الإسلامية .

 3) والمسار الأول يبدو من خلال أدبياته كما لو كان امتداداً للنِّحلة القاديانية ( الأحمدية ) التي تجد احتفاء غربياً ، منذ وقوفها في وجه الجهاد ضد المحتل الإنجليزي في الهند وإلى اليوم ، كما تجد رواجاً إعلاميا في بعض وسائل الإعلام في عالمنا الإسلامي ، ولترويجها رموز من الشام والهند ، فيما يشبه التحالف بين بعض الفلسفيين الهالكين في حبّ الغرب (لا الفلاسفة) ، وبين بعض غلاة المبتدعة الذين يجدون دعماً غربياً مشهودا .

وكثيرا ما تسمع رموز هذه الفئة تردِّد : ( لإن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك ) ، والمؤسف أنهم يوظِّفون الآية في غير موضعها ، وتُعارَض بها جلّ -إن لم يكن كلّ- نصوص الجهاد في القرآن الكريم .

ويبدو أنَّ هذا المسار لم يلق قبولاً بين جماهير الشعوب الإسلامية ، التي تنظر إليه بعين الريبة والتشكك في أهدافه ، بعد أن نبذته كفكرة ، و لا سيما مع وجود الكيان الصهيوني المحتل لفلسطين ، وفشل التطبيع الشعبي الإسلامي من الصهاينة ؛ فبقي هذا المسار حبيس رؤوس حامليه حينا ، وعلى أعمدتهم الصحفية حينا ، ولقد شاهدت عددا من لقاءت بعض رموزه في بعض القنوات الفضائية الشهيرة فكانت حججهم داحضة ، وأداؤهم ضعيفاً أمام المذيعين ، فضلاً عن المنظرين .

وعلى كل حال ، فهذا المسار ليس هو محل الحديث هنا ، وإن حاول أن يظهر رأسه في الثورات العربية ، لإيهام العامة بتوافق فكرته مع سلمية الثورات ؛ و شتان بين السلمية واللاعنف والاستسلامية وعمالة الغرب ، فالأهداف غير الأهداف .

  4) والمسار الثاني : الثورة الشعبية السلمية ، أو التغيير من خلال اللاعنف ، الذي يعدّ تحولاً من الخيار التقليدي - خيار الثورات المسلحة والانقلابات العسكرية الداخلية ، التي لم تعد مقبولة عالميا ، ولا سيما أنها مهما كانت نتائجها مناسبة للأجنبي ، إلا أنَّها محرجة له جداً ، بسبب تعارض مساندته لها مع ما يعلنه من مباديء - إلى خيار جديد سلمي في الجملة ؛ حيث يرفع فيه شعار : ( سلمية سلمية ) ؛ لقطع الطريق على النظام الذي يراد إسقاطه ، عن أي مسوّغ لقمع جماهير الثائرين ، وإلا كان منتهكاً لحقوق الإنسان ؛ لأنَّ مَن أمامه لم يحملوا سلاحاً ! ولأنَّه يقتل أناساً عزّلا ! ومن ثم تتم مواجهته بما يسمى بـ(الشرعية الدولية) التي لا تعني الالتزام بالمعاهدات ، وإنما تعني في واقعها الإلزام الانتقائي بالإملاءات ، بما فيها رحيل النظام ؛ ليتم بعد ذلك وضع نظام جديد ، يقبل إملاء الأجنبي عليه دون تردد !

وهذه الآلية السلمية في الجملة ، والتي توصف بـ (تقنية اللاعنف) ، تمَّ الاعتماد عليها من قبلُ في قلب أنظمة الحكم المعارضة لحلف الأطلسي في أوربا الشرقية .

ولكن هل هذه التقنية (التغيير باللاعنف) ناجحة دوما ؟ وهل هي قابلة للتطبيق على كل حال ؟

هنا يمكن القول : لا شكّ أنَّ هذا المسار قد ثبتت فاعليته ، وبدت بوادر فائدته لبعض الشعوب المضطهدة ، التي تخضع للإذلال والاستبداد المقصود من عقود ؛ فوجدت فيه شفاء للنفس المظلومة ، وذاقت من خلاله طعم الحرية المهضومة ، وبدت تتزايد آثاره الإيجابية في إعادة الإنسان إلى توازنه العادي ، من خلال ما أحدثه من تغييرات جذرية في نمط الشخصية من جازعة إلى فاعلة ، وطريقة التفكير من القاع إلى الإبداع .

إلا أنَّ للثورات الشعبية (التي بلا رأس!) جانباً آخر سيئاً ، ينبغي التفطّن له ، وهو أحد أهداف هذه المقالة السياسية الشرعية ، حتى لا نغرق في نشوة الفرحة بسقوط أنظمة مستبدّة ظالمة ، وننسى أنَّ ذات الوسيلة قد تكون وسيلة إسقاط لأي نظامٍ لا يخنع ولا يخضع للأجنبي ، ولو كان ذلك النظام نزيهاً ، وعادلاً ، وجاءَ نتيجة انتخابات حرّة نزيهة ، تمت إثر ثورة ناجحة من ثورات ما يسمى بالربيع العربي ! 

وعليه يمكن القول : إنَّ مسار (التغيير باللاعنف) سلاح ذو حدين ! فكما يمكن توظيفه في التغيير من الاستبداد إلى المشاركة ، ومن الظلم إلى العدل – يمكن توظيفه أيضاً : من الاستقرار والتدرج في الإصلاح ، إلى الفوضى الخلاقة ، التي من أجلها كُثِّف الحديث عنه ؛ حتى لو خرج الشعب من ثورته بحكومة تؤمن بإشراك الشعب في قراراتها بآلية من الآليات الديمقراطية كما أسلفت - إلا أنَّها تجعل هذه الحكومة ذاتها قابلة للثورة السلمية عليها دون مبرِّر حقيقي تقتضيه المصلحة العامة ؛ وهنا قد يتم تحريك هذه الثورة (التي وصِفَت بأنها لا رأس لها !) من خلال القوى الخارجية التي لن تعدم قضية محلية -محقة أو مبطلة - تدفع بها من خلال الطابور الخامس عادةً ، ومن خلال المظلومين من الوطنيين أحياناً ؛ لتجعل منها شرارة وقود لثورة جديدة ! لا تتطلب أكثر من حملة إعلامية منظّمة ، مع شيءٍ من الاستدراج إلى قراراتٍ وممارساتٍ يرفضها المواطن ويراها في غير مصلحته ثم يتبع بضغط أجنبي متكرِّر إعلامي أو سياسي أو اقتصادي! وهكذا تبقى الشعوب في قلاقل من ثورة إلى ثورة ، دون استقرار يجعلها مؤهلة للنهضة الوطنية ، والتنمية البشرية ، والحفاظ على الأمن القومي والوطني . وهنا نعود لما يراد من الفوضى الخلاقة ! وإعادة ترتيب المنطقة على نحو يخدم المصالح الأجنبية لحقبة جديدة .

نعم ليس كل من يشعل الحرب يملك إيقافها لصالحه ! ولعلّ هذه القراءة هي التي أدركها في حينه بعض الصهاينة إذ قال معلقا على ثورتي تونس ومصر ، ما معناه : إنها بداية شرق أوسط جديد ، لكنه على غير ما نريد ! وهو ما أشرت إليه في مقال سابق .

5) ومما ينبغي التوقف عنده هنا : ما يلحظ من أنَّ تقنية ( التغيير باللاعنف أو الانقلاب السلمي ) لم تكن فعّالة – ولو بالقدر الكافي على الأقلّ - بالنسبة للأنظمة التي ، لقادتها شعبية كبيرة بين الناس ولا تقبل الخنوع ، أو تقاومه ، انطلاقاً من ثقافتها الوطنية ، واستناداً على الخيار الشعبي العام .

فالفيلسوف (جين شارب) ، منظّر استراتيجية التغيير باللاعنف ، كان قريبا من محاولة التغيير بهذا السلاح السياسي في حالة فنزويلا ضد نظام شافيز ، تلك المحاولة التي فشلت فشلاً واضحاً ، بل ساهمت في زيادة شعبية رئيسها الممانع .

وفي عالمنا العربي يُلحظ أنَّ هذه التقنية ، قد تسببت في إسقاط الأنظمة التي انتشر فيها الظلم والفساد حتى عمَّ البلاد والعباد - تلك الصفة المصاحبة لكل دولة موالية للأجنبي ولاءً مطلقا - بسرعة مذهلة كحالة النظامين اللذين أُسقطا في مصر وتونس ! تلك الأنظمة التي تسارعت في إرغام شعوبها الإسلامية على ما يخالف دينها ، بقرارات غير دستورية ( لا شكلاً ولا مضمونا حيث تجاوزت السلطات التنظيمية ، والثوابت الإسلامية ) - على تمرير مفاهيم وسنّ قوانين تتعارض مع ثوابت دينها وثقافة المجتمع الإسلامي ! والتسارع في الرضوخ المبكر لاتفاقيات شاذَّة ، فيها إلزامات حادّة مجانبة للحق ، متدخلة في شؤون الخلق ، صرح علماء الإسلام ببطلان أسسها ، وجلّ بنودها المناقضة للإسلام عقيدة وشريعة ولنصوص القرآن والسنة الصريحة .

بينما سلمت منها الأنظمة العربية المتمنِّعة أمام الضغوط الأجنبية ، لأسباب موضوعية تنطلق من مبادئها الإسلامية ، وتنحاز لخيارات شعوبها في الجملة ؛ لا لضغط الأجنبي ، مهما ارتفع صراخ الانتهازيين حدّ التداعي للتباكي في محافل الأجنبي المتربص علناً !

وذلك كما في بلادنا العزيزة ، المملكة العربية السعودية ، حماها الله من كيد الكائدين ، وحقد الحاقدين .

وفي هذا الملحوظ عبرة عند المؤمنين بمقتضيات شؤم محادّة الله على من يحادّه ويحادّ الشعوب المسلمة ، طال الزمن أو قصر .

وهنا يحسن بنا الانتقال للمسار الثالث ، الذي يتمم هذا المعنى .

6) المسار الثالث : التغيير من خلال الثورة على النظم الأساسية والدساتير والقوانين والأنظمة المحلية للبلاد الإسلامية ؛ و إرغام الأنظمة فيها – فيما بعد – على ما تقتضيه تلك التغييرات القانونية في تقنيناتها الدستورية والعادية ، التي قد تصل مطالبها حدّ تغيير طبيعة النظام نفسه إذا ما كان ذلك ضرورياً لإحداث التغيير الأسرع ؛ ليتم الوصول بعد ذلك إلى تنفيذ ما يمليه الأجنبي ؛ ومن ثم إمكان تغيير البنية الثقافية الإسلامية في الدول المتمنّعة إسلامية أو غير إسلامية ؛ وفي الدول الإسلامية ، من خلال خلخلة كل ما يمت لثوابت دينها ، ومسلمات ثقافتها بصلةٍ ، عبادةً أو معاملةً أو أخلاقاً !

ويتخذ هذا المسار آليات عديدة ، من أهمها : الضغوط الأجنبية ، التي قد تتطلب أحياناً تحريك قلّة شاذّة من النفعيين ومن ينخدع بهم في الداخل ؛ ليتم تبنِّي تحركهم أجنبياً على أنّه تحرك شعبي - لتوقيع اتفاقيات تُلزم الدول الإسلامية بهذا النوع من التغيير الخطير أو الالتزام بمقتضى اتفاقيات سابقة وإن تم التحفظ عليها ؛ كما رأينا في التعامل مع الدول التي وقعت اتفاقية (سيداو1979م) ، التي تتغيا تغيير نظام الأحوال الشخصية الإسلامي ، وتبديله بما يتماشى مع رغبة الغرب ، فقد تحفظت عليها بعض الدول ، ومع ذلك تم تجاهل تحفظاتها ، وإرغامها على تنفيذ بنود الاتفاقية المشؤومة مهما كانت مناقضة لدين الدولة أو تدين المجتمع ؛ ومهما كانت آثار إرغامها على استقرار الدولة وأمن المجتمع، وكما هو مشاهد اليوم في كلَّ الدول التي سقطت أو لا زالت تتعرض لاهتزازات السقوط من خلال تنامي المظاهرات والمسيرات فيها !. 

وأضرب مثالاً على المستند الأجنبي لهذا المسار الثوري ، ببعض بنود اتفاقية (سيداو) ؛ فقد جاء في المادة الثانية فقرة (أ) ، فقد جاء فيها : " إدماج مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في دساتيرها الوطنية أو تشريعاتها المناسبة الأخرى، إذا لم يكن هذا المبدأ قد أدمج فيها حتى الآن،وكفالة التحقيق العملى لهذا المبدأ من خلال التشريع وغيره من الوسائل المناسبة " .

وجاء في الفقرة (و) من ذات المادة : " اتخاذ جميع التدابير المناسبة ، بما في ذلك التشريع ؛ لتعديل أو إلغاء القوانين ، والأنظمة ، والأعراف ، والممارسات القائمة ، التي تشكِّل تمييزا ضد المرأة " .

فهل جلبت (سيداو) غضب الله على من تبع فيها الغربَ حذو القذة بالقذة كما أخبر الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه ؟!

وأقلّ ما يقال هنا : لعلّ الثورة على القوانين الشرعية المحلية للبلدان الإسلامية ، هي بدايات الظلم والفساد ، الذي تشكّل فيما بعد في الثورات الشعبية السلمية على الأنظمة التي كانت حاكمة ! ولا غرابة فمن يقبل الثورة على عقيدته وثوابته ، لن يتوانى عن ظلم المسلمين تبريراً لظلمه وعدوانه .

إذ لا شكَّ أنَّ من أخطر آليات خلخلة الاستقرار ، ودفع النّاس نحو المواجهة للأنظمة دون حاجة إلى أحزاب وتنظيمات : ثورة الأنظمة الحاكمة على القوانين والأنظمة المحلية المستمدة من الشريعة الإسلامية مباشرة . أو ما يمكن أن يوصف بالخضوع لـ(فرض العولمة) في البلاد التي تعلن العلمانية مبدءا ، و (فرض العلمنة) في البلاد التي لا تؤمن بالعلمنة ، بوصفها الخطوة اللازمة لفرض العولمة ؛ ذلك أنَّه انحياز للأجنبي ، لا للشعب ، الذي هو أداة التغيير كما في المسار الثاني .

7) وهذه القضية من أحقّ القضايا بالدراسة والعناية واستشراف المستقبل ! وهي قضية يمكن الإطلال عليها من خلال النظر في السلوك التغريبي الدولي تجاه الأمة العربية والإسلامية ، وتقسيمه إلى مرحلتين ، تلتا مرحلة الاستغلال للبلاد الإسلامية تحت مسمّى الاستعمار :

فأمَّا المرحلة الأولى : فمرحلة فرض العلمانية على الأوطان العربية والإسلامية ، إثر تحررها من الاستعباد الأجنبي ؛ إذ كان مقتضى العلمانية : عدم التدخل في الدين ذاته ؛ فبقيت للنّاس مساجدها ، وبقيت لها حرية ما – قلّت أو كثرت – في ممارسة شعائر دينها ، ووجدت لذلك وزارات يفترض فيها خدمة هذه الجوانب ؛ وكذا عدم التدخل فيما ينتمي إلى الدين بقوة من شؤون المجتمع ، كأحكام الأسرة ، التي بقيت بشكل ما ، تحت مسمّى قوانين الأحوال الشخصية .

وقد تكشفت العلمانية لشعوب العالم الإسلامي على أيدي الأبرار من قادتها وعلمائها المخلصين خلال العقود السابقة ؛ ثم انخرطت الجماهير العربية والإسلامية - في أوطانها وخارجها - بل والمسلمون الجدد ببلاد الأقليات ، في الصحوة الإسلامية التي تعني التوجه نحو الإسلام ذاته (لا التوجهات الحزبية ولا التيارات الإسلامية فحسب) ، واتجهت الشعوب إلى المطالبة بتحكيم الشريعة ، وذلك كلّه بالتزامن مع تشكّل مناعة عامّة ضد العلمانية ؛ حتى لم تعد قابلة للترويج الاختياري بالنسبة لجماهير المسلمين فضلاً عن المثقفين العقلاء والأحرار الشرفاء ،وصار المنادي بالعلمانية يتوارى من سوء ما يوصف به.

وأمَّا المرحلة الثانية : فمرحلة فرض العولمة (والمعنيّ بها هنا ما يتم الإلزام به من أفكار الأقلية الشاذة المؤثّرة من خلال الأذرع الدولية في الغرب) على الأوطان العربية والإسلامية ، بعد انحسار الحرب الباردة بين شيوعية الشرق وإمبريالية الغرب . فبعد فشل التغلغل العلماني في تحقيق كلّ أهدافه ، وبدأت تتحول القوى – هنا احتاج الأجنبي إلى ذراع أقوى ، لتلوي ذراع المتمنعين من الشعوب والحكّام . فكانت المرحلة الثانية بكل إرهاصاتها ووسائلها التي تستوحي كتاب (الأمير) دون استحياء ، حتى لو خرقت قوانين العالم بما فيها القانون الدولي العام !

8) لقد كان (فرض العلمنة) على سوئها ، أرحم من (فرض العولمة) ؛ ويتضح ذلك في أمور منها : أنَّ (فرض العلمانية) أبقى تديناً عاماً ، وأشياء من الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي كما أسلفت .

أمَّا (فرض العولمة) ، فقد كان التعدي على الدين فيه أعمق ، والتعامل مع المخالف له أشرس ، وذلك من خلال وسائل عملية قذرة ، من مثل : الضغط على الأنظمة الحاكمة التي تتمنع ، حدّ التهديد بالفوضى ثم التدخل ! ووسائل فكرية خطِرة ، من مثل : دعم أي تفسيرات أو مدارس تفسير للنصوص الشرعية تقضي على ثوابتها ؛ فأُظهرت مدارس متعددة (أرخنة وعقلنة وأنسنة) ، لا همّ لها إلا الترويج لإعادة تفسير الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية ، وفق الهوى التغريبي ؛ فالنصّ الشرعي قد تكفل الله بحفظه ، فلم يستطيعوا تحريف نصوصه وحروفه ؛ فاتجهوا إلى تحريف معانيه ودلالاته ، وهنا تم استخفاف بعض المثقفين ، بل وبعض ضعيفي التأصيل من الشرعيين ، من قبل الذين لا يوقنون وهو ما حذّر الله تعالى منه في مثل قوله :  )فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ(   .

ومن هنا ظهرت الجرأة - تهوراً وجهلاً ، واستناداً إلى حبل من النّاس لا إلى شجاعة ذات - على ثوابت الإسلام عقيدة وشريعة ، دون خوف من الله أو حياءٍ من خلقه ، ودون احترام لمشاعر أهل الإسلام في كل البلاد ، حتى ظهر من أبناء المسلمين المستكتبين في الصحافة من يناقض القرآن الكريم بتبني آراء قاديانية خطيرة ، ووجد من المستكتبين في الصحافة من يعلن – بكل جهالة ووقاحة - أن القوانين الوضعية أفضل من الشريعة الإسلامية ! ووجد من المستكتبين من يدعوا علناً إلى عدم التفريق في العقيدة بين مسلم ويهودي ونصراني ووثني ، والعياذ بالله .

ومنها : تجلي الشراسة في وسائل عداء سدنة العولمة ، للعالم العربي والإسلامي ؛ لفرض أجندتهم عليه باسم (الالتزامات الدولية) بالقوّة ، في مثل : اتفاقية الخداع (السيداو) ؛ وذلك من خلال الضغوط المتتالية التي تصل حدّ التهديد الواضح والتدخل المباشر ، والوفود المتتابعة التي تحمل معها كلّ أكاذيب وشبهات ما يعرف بالطابور الخامس ، ممن يرفعون تقارير عن بلادهم ما بين أفراد ومراكز ومنتديات ؛ كلّ ذلك من أجل القضاء على الشريعة الإسلامية في بلاد الحكم بالشريعة ، وما أبقته العلمانية من أحكام الشريعة الإسلامية في غيرها ، وهدم الشخصية الإسلامية العزيزة ومنظومتها التشريعية ، في أوطانها ؛ تحت دعوى : الحريات الدينية مرةً ! ودعاوى تحرير المرأة ثانية ! ودعاوى تطبيق المعاهدات الدولية ثالثة ! ودعاوى حماية الأقليات رابعة ! ودعاوى تطبيق الديمقراطية خامسة ! وهكذا .. وكلها أساليب وجدت لتحقيق هدف واحد ، هو إقصاء تحكيم الشريعة السمحة مقابل استجلاب وتحكيم العولمة التي تمكن الدول الأقوى مادياً من تحقيق سلطتها وسيادتها ، على مقدرات العالم الإسلامي ، يُعَيِّن فيه من يشاء ، ويَخلَع منه من يشاء ، في ظل نتائجها التي لا تجعل للناس تفكيرا في غير طلب المادّة والانشغال بها عن كل شيء ، حتى الحرية الحقيقية والسيادة ! 

9) و مع أنَّ ميثاق الأمم المتحدة ينص على احترام التنوع الثقافي والديني في العالم ، ومع أنَّ العلمانيين العولميين ومن يسير على خطاهم ، لا يملون من ترديد (التعددية) و (احترام الآخر) ، إلا أنَّ الجمعية العامة للأمم المتحدة اعتمدت اتفاقية(سيداو/CEDAW) في 18 ديسمبر عام 1979م ، وسيداو (اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة) ، وقد استخدمت فيها كلمة (التمييز) قصداً ، ولم تستخدم كلمة (الظلم) ؛ لأنها تستهدف كل صور التمييز بين الرجل والمرأة ، في أي ثقافة وأي دين ! سواء كان تمييزا في مصلحة المرأة أو ضدها ، وسواء كان شرعيا أو غير شرعي ! فليس هدفها القضاء على كافة أشكال الظلم ضد المرأة ! كما يظن بعض من لا يحسن قراءة المصطلحات الأجنبية !

          ومن هنا " أصبحت أحكام الشريعة الإسلامية مستهدفة من قبل منظمة الأمم المتحدة ، وصار الهدف هو : استبدال قوانين الأحوال الشخصية المستمدة من الشريعة الإسلامية [آخر صرح تبقَّى من الأحكام الإسلامية بعد فرض العلمانية في المجتمعات الإسلامية] بغيرها من القوانين التي تتخذ من الاتفاقيات الدولية مرجعية لها ؛ مع التجاهل التام لاعتراض العلماء والمؤسسات الدينية ؛ بل إنَّ بعض ما يتحفظ عليه الأزهر ومجمع البحوث بل وغالبية المؤسسات الدينية ، يتم إقراره وتمريره من خلال مجلسي الشورى والشعب .

          وتعد المنظمات غير الحكومية – المرتبطة بالتمويل الخارجي – رأس الحربة في تنفيذ توجيهات الأمم المتحدة من خلال المشروعات المتوالية ، التي يتم تقديمها إلى الجهات التشريعية ، مثل مجالس الشورى والشعب و وزارات العدل " [1] . 

فاتفاقية (السيداو) بتفسيراتها المتجددة الشاذة المعادية للفطرة ، لا يمكن أن توصف بأقلّ من معاهدة الشذوذ ونقض العهود وفرض القيود ؛ فقد كانت تفرض بنودها في الأحوال الشخصية الخاصة بكل ثقافة ودين ، باسم العولمة المستندة إلى ما يسمى بالشرعية الدولية .

وقد نبّه إلى خطورة هذه الاتفاقية وطالب بالانسحاب منها ، فضيلة الدكتور محمد بن إبراهيم السعيدي ، في مقال بعنوان :  )اقلعوا جذور البلاء من بلادنا  ([2].

وإنَّه لمن السطحية الساذجة ، والتبسيط المشبوه : النظر إلى الحركة النسوية ومطالباتها المتكررة لما يتعارض مع الأحكام الشرعية في العالم العربي والإسلامي ، على أنها حركات وطنية مستقلة ؛ إذ لو كانت حركات صريحة تطالب بحقوق حقيقية للمرأة ، لالتزمت بالأحكام الشرعية ولكن المقصود هو إقصاء الشريعة الإسلامية ؛ ومهما كانت المطالبات معقولة في الظاهر أحيانا ، إلا أنها لا تكاد تخلو من تهديد أمني وطني ، تؤكده الملابسات والظروف المصاحبة ; فالموضوع أخطر وأكبر مما يتصوره عموم من قد يحسن الظن ببعض المسايرين لبعض أدوات العولمة المباشرة وغير المباشرة ، والمتأبَّطِين لديها ; لأنَّ مؤدَّى هذه الدعوات ، بل وما يعلن من أهداف حقيقة لهذه الحركات النسوية في العالم العربي والإسلامي ، وما يصرح به من تلقي بعض المندفعين لترويجها من ذكور وإناث لأموال أجنبية ومزايا معينة ( في شهادات بعض من يشاركون في تلك اللقاءات وبعض من عرض عليهم المقابل فأباه ) ، لهو مما يثبت خلاف ذلك .

          وثمة قضايا أُعطيت زخما إعلاميا هائلا ، مع أنها قضايا ثانوية تمثل رأي الأقلية ، في عصر يزعم فيه الأجنبي أنهم مع الديمقراطية التي تراعي رأي الأغلبية ! فأي ديمقراطية تقدم رأي الأقلية في القضايا العامة على رأي الأغلبية مهما كانت ساحقة !

وأخيراً : يلاحظ من خلال قراءة هذه المسارات أنّه لم يعد المستهدف في عالمنا العربي والإسلامي ثرواته المادية فحسب ، بل كلَّ ما يمكن أن يشكِّل اعتزازاً بالشخصية المسلمة ، واستقلالاً عن الخضوع والصغار للأجنبي .

ونحن بحمد الله نعيش في المملكة العربية السعودية ، في ظل نظام إسلامي واضح ، التزم الكتاب والسنة دستوراً ، واستمداد الأنظمة منهما معياراً لشرعيتها ؛ بل صرح بجعلهما حكماً على النظام الأساسي وعلى جميع أنظمة الدولة .

وها هي الأوامر الملكية التي أصدرها خادم الحرمين الشريفين ، تأكيدا للمرجعية الشرعية ، والمنهج السياسي الشرعي ، من خلال دعم هيئة كبار العلماء ، ومقام سماحة المفتي العام ، ودعم هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وجمعيات تحفيظ القرآن الكريم ، والمكاتب الدعوية ، وإنشاء المجمع الفقهي السعودي ، وغيرها من الأوامر الملكية المشكورة ؛ وهو أمر لقي ترحيبا شعبياً كبيرا ، يعرفه كلّ من خالط النّاس ، وتابع حراكهم في الشبكة العالمية ، ووسائل التواصل الاجتماعي .

وهو أمر نؤكِّد أهميته ، ونتواصى بالمحافظة عليه ، وأنَّ نتعاون في ذلك قيادة وشعباً ؛ وقد قال خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله وفقه الله لما فيه رضاه :  فشأن يتعلق بديننا، ووطننا، وأمننا، وسمعة علمائنا، ومؤسساتنا الشرعية، التي هي معقد اعتزازنا واغتباطنا، لن نتهاون فيه، أو نتقاعس عنه، دينا ندين الله به، ومسؤولية نضطلع بها ـ إن شاء الله ـ على الوجه الذي يرضيه عنا، وهو المسؤول جل وعلا أن يوفقنا ويسددنا  " .

فالواجب على القيادات الإسلامية -في كل العالم الإسلامي- حكّاماً وعلماءَ ومثقفين شرفاء ، أن ينحازوا لدينهم وشعوبهم ؛ فيلتزموا الدعوة إلى الإسلام كافّة ، ومنه الدعوة إلى الإسلام ديناً للدولة ، والشريعة الإسلامية مصدراً للتنظيم . شأن المملكة العربية السعودية في المادة الأولى و السابعة من نظامها الأساسي ؛ فهذه أعظم صور الانحياز للشعوب الإسلامية ، والانقياد لشريعة الله ، التي تجمع بين أصالة المصدر ومرونة السياسة . و على الجميع أيضاً : التصدي لكل خطوة تريد إسلامنا وشريعتنا بسوء .

ولا تعارض في ذلك مع مقتضيات العلاقة بغير المسلمين ؛ إذ لا شكّ أن من مقتضيات السياسة الشرعية : الاحتفاظ – في ضوء الشريعة الإسلامية - بعلاقات متوازنة مع جميع الدول التي تراعي المصالح المشتركة ؛ دون تدخل في الأحكام الشرعية ، أو المساس بالسيادة الوطنية .


والخلاصة : أنَّ تحكيم شرع الله في كل شؤوننا هو العزّ والأمان ؛ فنحن قوم أعزنا الله بالإسلام ، ومهما ابتغينا العزّة في غيره أذلنا الله !

نسأل الله تعالى أن يلطف بالمسلمين ، ويكفيهم شرّ المتربصين ..


وكتب / سعد بن مطر العتيبي


تعقيب وإيضاح لفتوى الشيخ الدكتور عبدالله السلمي
في حكم السياحة في بلاد الكفار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه ... أمابعــد :
فقد استمعت لفتيا للشيخ الدكتور عبدالله السلمي عبر برنامج الجواب الكافي في قناة المجد إعادة يوم الاثنين 11/7/1432هـ ... أجاز فيها السفر للسياحة في بلاد الكفار بضوابط غير واضحة ... ولكون الفتيا أيضاً مجملة أحببت الإيضاح والتبيين للقراء الكرام ، حيث إن البلوى عمت بالسفر لبلاد الكفر مع مافيه من المحاذير والشرور الكثيرة ، ولأن الفتيا أيضاً معلنة أردت إعلان التعقيب براءة للذمة ونصحاً للأمة. 
وهذا الإيضاح والتعقيب لا ينقص من قدر الشيخ عبدالله فهو معروف بجهاده في تبليغ العلم والدعوة إلى الله تعالى ، وجهده مشكور غير مكفور ، إلا أن العصمة منتفية عن غير محمد صلى الله عليه وسلم ، وكما قال الإمام مالك رحمه الله : ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر ، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم. 
فأقول وبالله التوفيق ومنه استمد العون والتسديد :
قال الشيخ - وفقه الله تعالى - : " هذه المسألة لم يرد عن النبي بشأنها شيء معين ...."
قلت : لعل الشيخ - وفقه الله - بعيد العهد عن مذاكرة هذه المسألة ، والحق أنه ورد فيها عدة أدلة تدل على وجوب هجر بلاد الكفار ومفارقتهم وأنه لا يعذر في ترك ذلك إلا المستضعفين ... فمن الأدلة :
1. حكى الحافظ ابن كثير رحمه الله الإجماع على تحريم الإقامة بين ظهراني المشركين كما سيأتي ذكره إن شاء الله ، ولم ينازعه في ذلك أحد فيما أعلم .
2. قوله تعالى ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفوا عنهم وكان الله عفوا غفورا ) سورة النساء آية 97-99 . 
قال ابن كثير رحمه الله : " ... فنزلت هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكناً من إقامة الدين فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع وبنص هذه الآية حيث يقول الله تعالى ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ) أي بترك الهجرة ( قالوا فيم كنتم ) أي لم مكثتم هاهنا وتركتم الهجرة ؟ ( قالوا كنا مستضعفين في الأرض ) أي لا نقدر على الخروج من البلد ولا الذهاب في الأرض ( قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ) .[1]
3. قوله تعالى ( وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ... الآية ) سورة الكهف آية 16. قال ابن كثير رحمه الله : " ... أي وإذا فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم في عبادتهم غير الله ففارقوهم أيضاً بأبدانكم "[2] 
4. قوله تعالى ( ياعبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون ) سورة العنكبوت آية 56 . 
قال ابن جرير رحمه الله :" يقول الله تعالى للمؤمنين من عباده : يا عبادي الذين وحدوني وآمنوا برسولي إن أرضي واسعة لم تضق عليكم فتقيموا بموضع منها لايحل لكم المقام فيه ، ولكن إذا عمل بمكان منها بمعاصي الله فلم تقدروا على تغييره فاهربوا منه " ثم ساق بسنده عن سعيد بن جبير قال : " إذا عمل فيها بالمعاصي فاخرج منها " [3] ، قلت : فكيف بمن يقدم مختاراً إلى بلاد يُكفر فيها بالله تعالى .
5. قوله صلى الله عليه وسلم ( أنا بريء من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين ، لاتراءى نارهما ) أخرجه أبوداود والترمذي والنسائي وغيرهم .[4]
قال الخطابي رحمه الله : " وفيه دلالة على كراهة دخول المسلم دار الحرب للتجارة والمقام فيها أكثر من مدة أربعة أيام " [5] . 
هذا كلام الخطابي في التجارة فكيف بالسياحة !! 
وقال ابن حزم رحمه الله : " وهو عليه السلام لايبرأ إلا من كافر " [6] ومعنى ( لا تراءى ناراهما ) أي لا ينبغي أن يكونا بموضع بحيث تكون نار كل واحد منهما في مقابلة الأخرى على وجه لو كانت متمكنة من الإبصار لأبصرت الأخرى ، فإثبات الرؤية للنار مجاز [7].
6. قوله صلى الله عليه وسلم ( لايقبل الله من مشرك عملاً بعدما أسلم أو يزايل المشركين ) أي حتى يزايل المشركين ، أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه [8]
7. قوله صلى الله عليه وسلم ( من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله ) ومعنى جامع أي اجتمع به . أخرجه أبو داود عن سمرة رضي الله عنه .[9] 
قال المناوي رحمه الله : " ... وفيه إبرام وإلزام بالتصلب في مجانبة أعداء الله ومباعدتهم والتحرز عن مخالطتهم ومعاشرتهم .." [10].
وقال الشوكاني رحمه الله : " فيه دليل على تحريم مساكنة الكفار ووجوب مفارقتهم " [11].
8. حديث جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه قال : { بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم وعلى فراق المشرك } رواه أحمد والنسائي [12] .
وفيه إلحاق مفارقة المشركين بأركان الإسلام ودعائمه العظام ، وهذا الحديث كافٍ في النهي عن السفر إلى بلاد المشركين لتأخر إسلام جرير رضي الله عنه . 
9. حديث وفد بني المنتفق وفيه قال لقيط : { يارسول الله علام أبايعك ؟ فبسط النبي صلى الله عليه وسلم يده وقال ( على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وزيال المشرك وأن لا تشرك بالله إلهاً غيره ... الحديث ) أخرجه عبدالله بن أحمد في زوائد المسند وغيره .[13] 
قال ابن القيم رحمه الله :" وقوله في عقد البيعة : ( وزيال المشرك ) أي مفارقته ومعاداته ، فلا يجاوره ولا يواليه كما جاء في الحديث الذي في السنن ( لاتراءى ناراهما ) يعني المسلمين والمشركين .[14] 
ففي هذه الأدلة هيئة اجتماعية يقطع معها بهذا الحكم العظيم وهو تحريم الإقامة في بلاد الكفر أو السفر إليها بدون حاجة وقدرة على إظهار الدين . 
والإقامة تصدق على من أقام في المكان ولو ليلة واحدة ، ولذا في عرف الفقهاء أن من نوى الإقامة في بلد أكثر من أربعة أيام أخذ حكم المقيم وانتفى عنه حكم السفر ، وهذا قول الجمهور. 
وقال ابن حزم رحمه الله : " من دخل إليهم لغير جهاد أورسالة من الأمير فإقامة سـاعة إقامة " [15].
قال القرطبي رحمه الله : " قلت : ولا يختلف في أنه لا يحل لمسلم المقام في بلاد الكفر مع التمكن من الخروج منها لجريان أحكام الكفر عليه ولخوف الفتنة على نفسه ، وهذا حكم ثابت مؤبد إلى يوم القيامة ، وعلى هذا فلا يجوز لمسلم دخول بلاد الكفر لتجارة أو غيرهما مما لايكون ضرورياً في الدين كالرسل وكافتكاك المسلم ، وقد أبطل مالك رحمه الله تعالى شهادة من دخل بلاد الهند للتجارة " [16]
وعن سحنون بن سعيد قال قلت لابن القاسم : هل كان مالك يكره أن يتجر الرجل إلى أرض الحرب ؟ قال : نعم ، كان يكرهه كراهية شديدة ويقول لا يخرج إلى بلادهم حيث تجري أحكام الشرك عليه [17].
هذا في التجارة فكيف بالسياحة !!
قال شيخنا الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله : " والمقيم للدراسة أوللتجارة أو للتكسب والمستوطن حكمهم ومايقال فيهم حكم المستوطن لا فرق إذا كانوا لا يستطيعون إظهار دينهم وهم يقدرون على الهجرة " [18].
وقال رحمه الله : " وأي خير يبقى مع مشاهدة الشرك وغيره من المنكرات والسكوت عليها بل وفعلها ... وإن زعم المقيم من المسلمين بينهم أن له أغراضاً من الأغراض الدنيوية كالدراسة أو التجارة أو التكسب فذلك لا يزيده إلا مقتاً " [19].
قال الشيخ عبدالله السلمي - وفقه الله - : " ... ولكن القاعدة في ذلك أن كل من سافر إلى بلاد الكفر وقد أظهر دينه ولم يختلط بمنكراتهم الخاصة وليست العامة لأن بعض الناس يظن أن ذهابه ووجود موسيقى في الطرقات ، فهذا مما لايستطيعه الإنسان ... فإن شاء الله الجواز .." 
وهذه الجملة عليها ثلاثة مآخذ :
الأول : أجمل الشيخ - وفقه الله - مسألة إظهار الدين ، ولم يفصل للمستفتي والمستمعين معنى إظهار الدين الذي يجب على من سافر إلى بلاد الكفار ، وقد يظن بعض الناس أن إظهار الدين المشروط عل من سافر إلى بلاد الكفر هو إقامة الشعائر الظاهرة كالأذان والصلاة والصيام ونحو ذلك ، وهذا فهم خاطيء ، فإن إظهار الدين المطلوب تكفير الكافرين وعيب دينهم والطعن عليهم والبراءة منهم واعتزالهم والتحفظ من موادتهم والركون إليهم.
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله : " ... وإظهار دينه ليس هو مجرد فعل الصلاة وسائر فروع الدين واجتناب محرماته من الربا والزنا وغير ذلك ، إنما إظهار الدين مجاهرته بالتوحيد والبراءة مما عليه المشركون من الشرك بالله في العبادة وغير ذلك من أنواع الكفر والضلال "[20]
وقال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله : " ... وهذا بحمد الله واضح لا إشكال فيه ، فلو كان يقدر أن يصلي ويصوم لكن لا يقدر أن يظهر توحيده وإيمانه وعقيدته كان عاجزاً عن إظهار دينه ..." [21]
وهل أُخرج الرسول صلى الله عليه وسلم من أحب البلاد إليه مكة إلا بعد أن أعلن بعداوة المشركين وعيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم وترك مداهنتهم ! ولو اكتفى صلى الله عليه وسلم بالصلاة والشعائر الأخرى لتركته قريش يصلي حتى يموت ، فلما لم يطيقوا ذلك منه أرادوا قتله حتى ألجؤوه إلى الهجرة.

أما أدلة وجوب إظهار الدين فكثيرة ، منها :
1. قول الله تعالى ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده ... الآية ) سور الممتحنة آية 4 .
قال الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله : " فأمرنا سبحانه وتعالى أن نتأسى بإبراهيم الخليل ومن معه من المرسلين في قولهم ( إنا برءاء منكم ) إلى آخره ، وإذا كان واجباً على المسلم أن يقول هذا لقومه الذين هو بين أظهرهم فكونه واجباً للكفار الأبعدين عنه المخالفين له في جميع الأمور أبين وأبين ... واعلم أنه وإن كانت البغضاء متعلقة بالقلب فإنها لا تنفع حتى تظهر آثارها وتبين علاماتها ولا تكون كذلك حتى تقترن بالعداوة والمقاطعة فحينئذ تكون العداوة والبغضاء ظاهرتين ، وأما إذا وجدت الموالاة والمواصلة فإن ذلك يدل على عدم البغضاء فعليك بتأمل هذا الموضع فإنه يجلو عنك شبهات كثيرة "[22] .
2. قوله تعالى ( قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين وأن أقم وجهك للدين حنيفاً ولا تكونن من المشركين ) سورة يونس آية 104-105. 
فأمر الله نبيه أن يقول للمشركين إن كنتم في شك من صحة ما جئتكم من الدين الحنيف الذي أوحاه الله إلي فها أنا لاأعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله وحده لا شريك له وهو الذي يتوفاكم كما أحياكم ثم إليه مرجعكم فإن كانت آلهتكم التي تدعون من دون الله حقاً فأنا لا أعبدها ...[23]
3. قوله تعالى ( وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ) سورة إبراهيم آية 13 .
4. قوله تعالى عن قوم شعيب ( لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا ) سورة الأعراف آية 88 .
5. قوله تعالى عن أهل الكهف أنهم قالوا ( إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا ) سورة الكهف آية 20 . 
6. قوله تعالى ( قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ... الآيات ) سورة الكافرون كاملة . فهذه الآيات تدل على أن العداوة ما اشتدت بين الرسل وأممهم إلا بعد التصريح بمسبة دينهم وتسفيه أحلامهم وعيب آلهتهم . 
ولهذا قالت قريش لأبي طالب : " يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا فإما أن تكفه وإما أن تخلي بيننا وبينه ... " [24] .
وهل يظن بمن سافر لبلاد الكفار للسياحة أن يقوم بهذا الواجب الشرعي !! 
وهل يجتمع في القلب السرور والانبساط بالسياحة والفرجة مع العزم على الإعلان بالبراءة من الكفر والكافرين !! 
فإن وجد الثاني وهو كراهة الكفر والكافرين والبراءة منهم لم يوجد الأول وهو القصد للانبساط والسرور بين ظهرانيهم .
فإن قدرنا – جدلاً – وجود أحد يمارس إظهار الدين على الوجه المطلوب فإنه لن يُترك يفعل ما يريد ، فليس بأفضل من المرسلين وقد عمل أقوامهم معهم ما عملوا . 
قال في الإقناع : " وتكره التجارة والسفر إلى أرض العدو وبلاد الكفر مطلقاً وإلى بلاد الخوارج والبغاة والروافض والبدع المضلة ونحو ذلك ، وإن عجز عن إظهار دينه فيها حرم سفره إليها " [25] .
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله : " ... وإنما حرم السفر والإقامة فيها لوجوه ، منها : أن إظهار الدين على الوجه الذي تبرأ به الذمة متعذر وغير حاصل .."[26]
المأخذ الثاني : قول الشيخ - وفقه الله - : " ولم يختلط بمنكراتهم الخاصة وليست العامة ..." والظاهر من تعبير الشيخ أن السائح يباح له رؤية وسماع منكرات الكفار العامة ، فإنه قال " لأن بعض الناس يظن أن ذهابه ووجود موسيقى في الطرقات فهذا مما لا يستطيعه الإنسان ... " .
قلت : الأمر أعظم من منكرات الموسيقى التي مثّل بها الشيخ ، فإن الكفر بالله تعالى أكبر المنكرات في تلك البلاد ، وأجراس الكنائس التي تعلن بسب الله تعالى ونسبة الصاحبة والولد له - تعالى الله عن إفكهم - تُدق على سمع وبصر من السائحين المسلمين ، فهل يسوّغ المسلم السائح لنفسه أن يرى ويسمع الكفر بالله تعالى ويطمئن قلبه ويستمتع برحلته !! 
وكان السلف يحذرون من الإقامة ببلاد يسب فيها السلف ، فكيف ببلاد يسب فيها الله تعالى رب السلف والخلف .
قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله : " ليس لأحد المقام بأرض يسب فيها السلف " [27].
وإذا كان ربك قد حذرك من عدوه الذي طرده عن بابه وأبعده عن جنابه واشترط ذلك عليك في عهده الذي عهده إليك ، فكيف تقدم إليه فرحاً مسروراً !! 
هذا والله مما لايسمح به المحب ولا يتصوره العاقل ، ولقد أحسن من قال :
متى صدقت محبة من يراني من الأعداء في أمر فضيعِ
فتسمح اذنه بسماع شتمي وتسمح عينه لي بالدموعِ[28]
المأخذ الثالث : قول الشيخ وفقه الله " ...أن ذهابه ووجود موسيقى في الطرقات فهذا مما لايستطيعه الإنسان ... " ومعنى ذلك أن الشيخ لايرى وجوب إنكار المنكر الذي يراه المسلم السائح لكونه لايستطيع الإنكار اعتماداً على الرخصة في ذلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ) [29] .
وهذه الرخصة حق بلا شك ، ولكن ليست في حق من دخل أماكن المنكر مختاراً وبوسعه ألا يدخلها كحال السائحين في البلاد التي تظهر فيها المنكرات ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإذا رُخص للمسلم في ترك الإنكار باليد واللسان لم يرخص له في ترك الإنكار بالقلب ، لأنه لا سلطان لأحد على قلب المؤمن ، ومقتضى الإنكار بالقلب كراهية المنكر ، ومن يفعله ، ومفارقة المكان الذي يُفعل فيه المنكر ، أما من يرى ويسمع المنكر ويزعم أنه منكِر بقلبه فهذا كاذب ، مشارك في المنكر لقوله تعالى ( وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ) سورة النساء آية 140 .
قال القرطبي رحمه الله : " ... فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر ، لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم ، والرضا بالكفر كفر ، قال الله عزوجل ( إنكم إذا مثلهم ) فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء ، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها ، فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية ... " [30].

مسألة مهمة : نسي الشيخ - وفقه الله - تنبيه السائل والمستمعين على ما في بلاد الكفار من الفجور والفواحش التي يتعرض لها المسلم السائح ، وكم وقع كثير من السواح المسلمين في كبائر الذنوب من الخمر والزنا والمخدرات بسبب تلك السياحة المحرمة ، والنفوس فيها من الضعف ما فيها ، والخمر موفر في ثلاجات النزلاء في الفنادق ، والمروجون للبغاء يستقبلون السواح في المطارات !! هذا في بعض البلاد التي تسمى إسلامية فكيف ببلاد الكفر !! فهل يرخص الشيخ سامحه الله بهذا النوع من السياحة وفيه من المآثم والمخاطر ما فيه !!
كما أن مَن أكثر من السفر إلى بلاد الكفار فإنه يخف لديه مبدأ البراءة من الكافرين وهو من أصول التوحيد وفرائض الإيمان قال تعالى ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) سورة النحل آية 36 ، وقال تعالى ( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى ) سورة البقرة آية 256 .
ومعنى الكفر بالطاغوت كما فسره العلماء : أن تعتقد بطلان عبادة غير الله وتتركها وتبغضها وتكفر أهلها وتعاديهم [31].
ولا ريب أن من خالط الكفار فإنه يضعف إيمانه ، يعرف ذلك من له قلب حي ، أما من كثف حجابه ومرض قلبه فلا يلاحظ ذلك ، نسأل الله العافية والسلامة .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : " وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين هم أقل كفراً من غيرهم ، كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى هم أقل إيماناً من غيرهم ممن جرد الإسلام " [32]

خاتمة في ذكر بعض فتاوى العلماء في حكم السفر لبلاد الكفار لقصد السياحة: 
سئل الشيخ العلامة المحدث الفقيه الشهيد سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب رحمه الله : 
هل يجوز للمسلم أن يسافر إلى بلد الكفار الحربية لأجل التجارة أم لا ؟
الجواب : الحمد لله ، إن كان يقدر على إظهار دينه ولا يوالي المشركين جاز له ذلك ، فقد سافر بعض الصحابة رضي الله عنهم كأبي بكر رضي الله عنه وغيره من الصحابة إلى بلدان المشركين لأجل التجارة ، ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، كما رواه أحمد في مسنده وغيره ، وإن كان لايقدر على إظهار دينه ولا على عدم موالاتهم لم يجز له السفر إلى ديارهم كما نص على ذلك العلماء ، وعليه تحمل الأحاديث التي تدل على النهي عن ذلك ، ولأن الله تعالى أوجب على الإنسان العمل بالتوحيد وفرض عليه عداوة المشركين ، فما كان ذريعة وسبباً إلى إسقاط ذلك لم يجز ، وأيضاً فقد يجره ذلك إلى موافقتهم وإرضائهم كما هو الواقع كثيراً ممن يسافر إلى بلدان المشركين من فساق المسلمين ، نعوذ بالله من ذلك. 
وسئل : هل يفرق بين المدة القريبة مثل شهر أو شهرين والمدة البعيدة ؟
الجواب : لا فرق بين المدة القريبة والبعيدة ، فكل بلدة لا يقدر على إظهار دينه فيها ولا على عدم موالاة المشركين لا يجوز له المقام فيها ولا يوماً واحداً إذا كان يقدر على الخروج منها .[33]
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة رقم 4873 مانصه :
" لايجوز السفر لبلاد أهل الشرك إلا لمسوغ شرعي ، وليس قصد الفسحة مسوغاً للسفر ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين ) رواه أبو داود .
ولذا ننصحك بعدم الذهاب لتلك البلاد ونحوها للغرض المذكور لما في ذلك من التعرض للفتن والإقامة بين أظهر الكفار .." [34] 
وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله عن حكم السفر إلى بلاد الكفار وحكم السفر للسياحة ؟ 
فأجاب قائلاً : السفر إلى بلاد الكفار لايجوز إلا بثلاثة شروط :
الشرط الأول : أن يكون عند الإنسان علم يدفع به الشبهات .
الشرط الثاني : أن يكون عنده دين يمنعه من الشهوات .
الشرط الثالث : أن يكون محتاجاً إلى ذلك .
..... وأما السفر للسياحة في بلاد الكفار فهذا ليس بحاجة ..[35]
وقال أيضاً رحمه الله : " ... ولهذا أرى أن الذين يسافرون إلى بلاد الكفر من أجل السياحة فقط أرى أنهم آثمون ، وأن كل قرش يصرفونه لهذا السفر فإنه حرام عليهم وإضاعة لمالهم وسيحاسبون عنه يوم القيامة ..." [36] .
فالمرجو من فضيلة الشيخ إعادة النظر في هذه المسألة وبذل الجهد في تحريرها ومراجعة كلام أهل العلم ، والنظر في العواقب والذرائع المترتبة على التسهيل للناس في ذلك ، وصلى الله وسلم على محمد . 
د. عبدالله بن سليمان آل مهنا 
عضو الجمعية الفقهية السعودية 
almohna9@gmail.com

أعجبني