٢٧ ربيع الآخر ١٤٣٠ هـ

هكذا الفطرة السليمة - عبد الرحمن بن صالح العشماوي

دفق القلم 
هكذا الفطرة السليمة 
عبد الرحمن بن صالح العشماوي


عندما أقرأ مقالات بعض الكتَّاب الذين يتفانون في الدَّعوة إلى التحرُّر من ضوابط الشرع، وتجاوز الإطار الفسيح المشرق للمبادئ والقيم، أتذكر تلك الكلمة الجميلة، ذات المعاني العميقة التي وجهتها جَدَّةُ أحد المثقَّفين الذين درسوا في الغرب، وعادوا يحملون ما ساء من طباعه وأفكاره وأعماله، بعد أن نقلوا لها أخباره، وذكروا لها بعض ما يتفوَّه به من الأقوال، كلمة أملتْها الفطرة السليمة التي تظلُّ بنقائها أكبر من يتحدَّى أصحاب الفلسفات المنحرفة التي يشقى بها أصحابها وأتباعها.

قالت الجَدَّةُ لحفيدها (المتأمرك): سمعت عنك أشياء لم أصدقها، ولكني حينما رأيتك الآن (مزلوق اللحية والشارب) ووجهك فيه (حِيْفَة الزَّرا) (وهي كلمة مغرقة في العامية معناها: أسوأ الملامح) - وأهل منطقة الباحة يعرفون جيِّداً مدلول هذا المصطلح العامي-، فكمل الجدة حديثها قائلة: أيقنت أنَّ ما نقلوه عنك صحيح. وبعد سكتة مفعمة بالأسى ودموع الجدَّة الساخنة قالت:

يا ولدي كم سوف تعيش في هذه الحياة؟ إنها رحلة قصيرة جداً اسألني عنها ولدي، فأنا الآن في الثمانين لكنني شبه ميتة من حوالي عشر سنوات، لا أستمتع إلا بعلاقتي بربي، وتسبيحي وذِكْري وصلاتي، وما أنعم الله به عليَّ من حفظ بعض سور القرآن الكريم حينما التحقت بهذه الجمعية الخيرية المباركة لتحفيظ القرآن في قريتنا، أسأل الله العظيم أن يجزي من كانوا السبب في افتتاحها خير الجزاء.

يا ولدي، إن كانت شهوات النفس، والرغبة في متع الحياة هي التي تقودك إلى هذا الطريق المخالف فلا بد أن تعلم أن وقتها قصير، وتخيَّل نفسك مريضاً عاجزاً، أو مقعداً بسبب حادث من الحوادث، أو جثَّة هامدة داهمها الموت في أي وقت، فالأعمار بيد الله، ماذا ستنفعك هذه (الخرابيط) التي تدعو إليها؟ وهل نهون عليك نحن يا ولدي وتهون عليك أسرتك ومجتمعك ووطنك العزيز، إلى درجة أنك تريد أن تسوق الجميع إلى مخالفة الشرع والفطرة السليمة من أجل هواك ونفسك، اسمع يا ولدي (القطُّ يدفن أذاه) فلا تكنْ القطط أعقل منك. وانخرطت في البكاء الصادق حتى أبكتْ حفيدها.

يقول صديق ذلك الحفيد: فتغيرت حياة الحفيد من تلك الجلسة العجيبة جلسة (الفطرة السليمة). ويقول الحفيد: لقد جاءتني جدتي من أقصر الطرق، بعيداً عن الفلسفات والحوارات الطويلة التي لا فائدة منها، كانت فطرتُها أبلغ من كلِّ ما سمعتُ وقرأتُ، وكانت إصابتها لأصل المشكلة دقيقة جداً حينما أشارت إلى رغبات النفس وشهواتها الخاصة، فأنا أعرف معرفة دقيقة أن كثيراً ممن ينهجون ذلك النهج المخالف الذي عافاني منه ربي - والحمد لله - إنما يريدون المجتمع بالصورة التي تتيح لهم ممارسة ما يشتهون بدون قلق من الضوابط التي تلاحقهم، وهذه (أنانية مقيتة) استطاعت جدتي بحديث فطرتها أنْ تنبِّهني إليها.

حديثُ الفطرة السليمة ننقله بلا تفاصيل، ولا تزويق إلى كلِّ مسلم ومسلمة لبَّس عليهم الشيطان أفكارهم، وشوَّه معالم أذهانهم، وساقهم إلى قِفار الشهوات والشبهات، فأصبحوا تائهين عن الحق، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

ننقله إليهم لعلَّهم يراجعون أنفسهم كما راجعها الحفيد الذي أيقظه حديث الفطرة السليمة من سُبات الغفلة.

إشارة:

كم جديدٍ نذوب شوقاً إليه

نتناسى بأنَّه سوف يَبْلى

المنبع :

جريدة الجزيرة 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حياك الله ، يشرفني تعليقك .

أعجبني