هيبة النصوص عند المثقفين !
ستبقى العقول تدور في رحى الجهل والتخلف مهما بلغت في العلوم الدنيوية , وترسف في أغلال العبوديات مهما تظافرت دعاوى الحرية , إذا ابتعدت عن منبع التشريع الأول وهو الكتاب والسنة , وإن الأمة لتعلوا بعلوهما والاستقاء من معينهما الصافي وبقدر البعد عن الاستقاء منهما يكون التخلف !
إن الإيمان الذي يكمن في دواخلنا بأن الله جل في علاه هو بارئ النسمات وخالق البريات وأعلم عليم سبحانه هذا الإيمان يقتضى أن نتقفّى ما جاءنا عنه في كلامه أو في كلام رسوله قال الجنيد بن محمد البغدادي المتوفّى سنة 298 هجرية) :الطُّرقُ كُلُّها مَسْدودَةٌ على الخلْقِ إلاّ على مَنِ اقتَفى أثَرَ رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم,وقالَ:مَنْ لمْ يحفَظِ القُرآنَ,ولم يكتب الحَدِيثَ لا يُقتَدَى بهِ في هذَا الأمرِ،لأنَّ عِلمَنا هذا
مُقَيَّدٌ بالكتابِ والسُّنّةِ )
فما بالنا نجد دعاة النهضة بهذه الأمة قد تهافتوا على كتابات المثقفين من الملحدين أو على الأقل من قليلي التأمل في الكتاب العزيز والسنة المطهرة وتركوا تراثنا الأول بل تركوا علمائنا المعاصرين ودروسهم وطلبة العلم الشرعي الرصين السمين الذين كلامهم نور الكتاب والسنة هنا تكمن الكارثة ! أن جماعة مما لا يحترم النصوص من الأحياء والأموات أصبح هو المنبع الزلال لدى مثقفة العصر وأصبح الوصف بالعقلاني أبهى وأحلى من الوصف بالمحدث والمفسر ونحن إن لم نصرح بها صراحة إلا أنها موجودة في ثنايا التطبيقات والمناقشات !
وطالما استمعت وقرأت وجالست أناسا يتكلمون عن الإسلام ورؤاه المقاصدية والحِكَم من التشريع وهم أبعد الناس عن تطبيقه في أنفسهم واقعا ملموسا ما الذي يجعلهم جميعا على قول واحد في جواز الإسبال والأخذ من اللحية حتى لا يبقى سوى قيد الأنملة أو أصغر هنا يكمن الخلل ولو تأملنا فكيف يُصلح وضعنا من لم يصلح وضعه هو؟؟
قال إسحاق بن إبراهيم الحنيني: قال مالك:" قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تم هذا الأمر واستكمل ، فإنما ينبغي أن نتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ولا نتبع الرأي وإنه من اتبع الرأي جاء رجل أقوى منك في الرأي فأتبعته ، فأنت كلما جاء رجل غلبك اتبعته ، أرى هذا الأمر لا يتم . (الاعتصام للشاطبي1/105(
إن من التقريرات التي فُرغ منها أن العقل البشري عقل ٌ محدود ببيئته وزمانه ومكانه , وهو متقلب بحسب ما يواجهه من قرائن وإشكالات , وأيضا فإن الإنسان مهما بلغ في ذكاءه تجد أنه في وجهٍ دون وجه لذلك كثير من أذكياء العالم قد تخبطوا في الخرافة من رؤوسهم إلى أخمص أقدامهم فتحكيم العقول وحده الهلاك كلُه !
ولذلك فإن من روائع ما أُلهمه الإمام الهمام العلامة المجدد عليه شآبيب الرحمات محمد بن عبدالوهاب ما ذكره في مطلع الأصول الستة حين قال ( من أعجب العجاب، وأكبر الآيات الدالة على قدرة الملك الغلاب: ستة أصول بينها الله تعالى بيانًا واضحًا للعوام فوق ما يظن الظانون، ثم بعد هذا غلط فيها كثير من أذكياء العالم، وعقلاء بني آدم، إلا أقل القليل .. ثم ذكر أولها إخلاص الدين لله وذكر في الأصل الرابع : بيان العلم والعلماء، والفقه والفقهاء، وبيان مَن تشبه بهم وليس منهم.
وقد بيَّن الله -تعالى- هذا الأصل في أول سورة البقرة في قوله: {يَا بَنِي إسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 47]، إلى قوله قبل ذكر إبراهيم -عليه السلام-: {يَا بَنِي إسْرَائِيلَ
ويزيده وضوحًا ما صرحت به السُّنَّة في هذا الكلام الكثير البيِّن الواضح للعامي البليد.
ثم صار هذا أغرب الأشياء، وصار العلم والفقه هو البِدع والضلالات، وخيار ما عندهم لَبس الحق بالباطل، وصار العلم الذي فرضه الله -تعالى- على الخلق ومدحه لا يتفوَّه به إلا زنديق أو مجنون، وصار مَن أنكره وعاداه وصنف في التحذير منه، والنهي عنه هو الفقيه العالِم.
وزيّنها بالأصل الخامس حين قال رحمه الله (بيانُ الله -سبحانه- لأولياء الله، وتفريقه بينهم وبين المتشبِّهين بهم مِن أعداء الله المنافقين والفجار.
ويكفي في هذا آية في سورة آل عمران؛ وهي قوله )قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ...) أ.هـ
أيها الأحباب إنني أعيد الـتأمل كلَّ ما فرغتُ منه في آية تفتح لنا أفاق وتختصر لنا طرقا كثيرة وتبين لنا ضلالات الناس مهما زخرفوها ببهرج القول وجمال الدعاوى :
(فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم )
امنت بالله وحده !
قال بشر بن عمر: سمعت مالك بن أنس كثيرا إذا حدّث عن النبي صلى الله عليه وسلم بحديث فيقال له: وما تقول أنت؟ أو رأيك؟ فيقول مالك: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم ( (التمهيد8/411(
وأرى في الأية أن من صميم المخالفة تتبع سنَن غيره وهو فهم مالك رحمه الله مهما بلغ غيره في العلم والفلسفة إن اتباع سنة غيره يعني الفتنة ومعنى ذلك تتابع الشبهات على عقله حتى لا يفهم الواضحات وهذا صميم حال جمع من المثقفين اليوم وبعضهم ردّ عليه علمائنا عشرات الردود المملوءة بالكلام الرصين والرزين فكان رده (مشكلتُهم لم يفهموا مرادي )
من تتبع سنة العقلانيين ومدعي قراءة العقليات والملحدين الذين يبثون في الناس بشكل أو بآخر أنهم يسعون خلف النهضة وأن علمائنا المشغولون بجدليات الماضي السحيق لا يفهمون الواقع ولا يزنون الأمور بموازين العصر ولم يخرجوا الى البلاد المتقدمة وهنا تتابع الفتنة أعد قراءة الآية وأترك لك حرية التأمل :
(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم (
فمن تتابع الفتن البعد عن التأمل في الكتب والسنة والاستقاء منهما في نوازل الأمة , أعرف أحد علمائنا المعاصرين يقول حين تستغلق علي النازلة أغلق بابي وآخذ كتاب العلي الكبير فلا أتركه حتى يفتح الله علي , أصبحنا نرى المقالات الطويلة لا تحمل آية ولا حديث يزين بها المقال ويجمل بها الحروف والكلمات إن هذا الدين تام كامل وفي كتاب الله هداية الحيارى وطوق النجاة للغارقين في بحار العقلانية والفلسفة تأملت قول الله ( وإنه لكتاب عزيز ..) فتبين لي أن هذا الكتاب لا يؤتى ما فيه من الخزائن الا الموفقون !
وليس معنى كلامنا أن تحشر النصوص في غير محلها كما يفعل بعضهم إذا جاء يلقي شبهه وإن طامة الطوام وداهية الدواهي أن يتكلم هؤلاء المثقفين في الشريعة بأفهامهم القاصرة فيضاربوا الأدلة بعضها ببعض ويلقوا بالمتشابهات ويحفظوها ويتركوا المحكمات في معزل يتخطى أحدهم عشرات النصوص في معنى واحد ثم يجد مبتغاه في نص قد يتحمله بليّ عنق الحديث أو من بعيد جدا فيترك المحكمات ويتكئ على المتشابه في دعوته للإصلاح والنهضة , أو يدعوا الى مقاصد الشريعة ويجعلها دليلا يقارع به الأدلة الصريحة في الباب وهذا جهل في فقه المقاصد , فلم تكن المقاصد دليلا يستند عليه , ومع العلم أن علماء هذا الباب قد قرروا أن مأخذ هذه المقاصد هي الأدلة الشرعية الجزئية وهنا يتضح الفرق , فلا يمكن أن يقابل النص بالمقصد إطلاقا وهذه المقاصد كثير منها ليست في مقام القطع , وما كان منها في مقام القطع فلا يعني إستعماله على كل وجه وفي كل مسألة وهنا تتبين جلالة هذا العلم وأننا إذا شرقنا وغربنا في التحليلات العقليات وادعاءات حوادث العين والسياقات وقعنا في تحكيم الشريعة بالعقول لابد أن نؤمن ونطبق أن هذه الشريعة حاكمة للعقل .
لم أكن أتوقع حين كنت أقرأ لشيخ الاسلام ابن تيمية في حواراته مع المعتزلة أننا بحاجة لهذا العلم أو النقاش فيه وكان يبدو لي أن هذا النقاش يناسب عصر شيخ الاسلام أما الآن وبعد أن قرأت لجماعة من دعاة الإصلاح فنحن بحاجة ماسة إلى إعادة النظر والتأمل
كان السلف إذا لاح لهم النص تركوا النظر والفِكَر , وسلموا قيادهم له حتى في الفروع الفقهية المحتملة لعدة أوجه ومن قرأ في سيرهم علم أنهم كانوا يربّون الناس على هذا فالأئمة الأربعة كانوا يقولون إذا خالفنا كلام رسول الله فاضربوا بأقوالنا عرض الحائط نعم أيها الأحبة أقسم أنها ما قامت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام
قال ابن وهب : سمعت مالكا يسأل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء فقال:" ليس ذلك على الناس"، قال فتركته حتى خف الناس فقلت له: يا أبا عبد الله سمعتك تفتي في مسألة تخليل أصابع الرجلين زعمت أن ليس ذلك على الناس وعندنا في ذلك سنة فقال:" وما هي؟" فقلت: ثنا الليث بن سعد وبن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن المستورد بن شداد القرشي قال رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه فقال:" إن هذا حديث حسن وما سمعت به قط إلا الساعة" ثم سمعته يسأل بعد ذلك، فأمر بتخليل الأصابع.
وعلى الهامش فتأمل معي ( تركته حتى خفّ الناس )
نعم إنه ليس لمالك على جلالة علمه ومكانته وديانته الا أن يسلك هذا المسلك والكثيرين نقرع أذانهم بالنصوص فلا يعبئون بها ويتنافسون في التهرب منها إما الى المقاصد أو الى النقاشات العقلية أو بعض ماورد عن السلف في غير محله
وأختم بالتعريج على نقطة مهمة في هذا الباب وهي أن المعول عليه في فهم الوحيين هو فهم السلف لهما إذ أنهم شهداء التنزيل وعلماء التأويل ولا يخلو زمان من الحق وكل دليل جاء في الإجماع فسوقه في فهم السلف مهم إذ أنهم إذا فهموا النص على وجه من الوجوه لا يجوز الخروج الى غيره أبدا
(ومن يشاقق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا )
مهما اختلفت أقوالهم فسبيلهم واحد في كثير من المسائل لمن تدبر ولابد أن يكون لهم سبيل في الفهم والاحتجاج وهو نص القرءان علمه من علمه وجهله من جهله
قال ابن تيمية: إنما المتبع في إثبات أحكام الله: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسبيل السابقين أو الأولين، لا يجوز إثبات حكم شرعي بدون هذه الأصول الثلاثة، نصاً واستنباطاً بحال أ.ه
يقول الأوزاعي رحمه الله تعالى : عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال، وإن زخرفوه لك بالقول أ.ه
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : ( ومن عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئاً في ذلك ، بل كان مبتدعاً وإن كان مجتهداً مغفوراً له خطؤه ، فالمقصود بيان طرق العلم وأدلته ، وطرق الصواب ، ونحن نعلم أن القرآن قرأه الصحابة والتابعون وتابعوهم ، وأنهم أعلم بتفسيره ومعانيه، كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ، فمن خالف قولهم وفسر القرآن بخلاف تفسيرهم فقد أخطأ في الدليل والمدلول جميعاً ) ، ( مجموع فتاوى شيخ الإسلام ج 13 / 361).
وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله - : منتقدا تأويلات أهل البدع لصفة الاستواء لله عز وجل ( . . إن هذا تفسير لكلام الله بالرأي المجرد الذي لم يذهب إليه صاحب ، ولا تابع ، ولا قاله إمام من أئمة المسلمين ،ولا أحد من أهل التفسير الذين يحكون أقوال السلف ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار ) ، وإن إحداث القول في تفسير كتاب الله الذي كان السلف والأئمة على خلافه يستلزم أحد أمرين : إما أن يكون خطأ في نفسه أو تكون أقوال السلف المخالفة له خطأ ، ولا يشك عاقل أنه أولى بالغلط والخطأ من قول السلف( انظر مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة ص 353.
وقال الإمام ابن عبد الهادي – رحمه الله - : ( ولا يجوز إحداث تأويل في آية ، أو في سنة،لم يكن على عهد السلف، ولا عرفوه،ولا بينوه للأمة، فإن هذا يتضمن أنهم جهلوا الحق في هذا وضلوا عنه، واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر، فكيف إذا كان التأويل يخالف تأويلهم ويناقضه ، وبطلان هذا التأويل أظهر من أن يطنب في رده )، ( انظر الصارم المنكي في الرد على السبكي ص 427)
أيها الأحبة رجوعنا للوحيين هو العهد الذي عهده الينا رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه في حجة الوداع وتركه فينا ولن نضل ما اتبعناه فهي دعوة لدعاة الاصلاح والنهضة باستخراج النهضة من الكتاب العزيز والسنة المشرفة وإعادة التدبر والتأمل ولن يصلح أمر آخر هذه الأمة الا ما صلح عليه أمر أولها والسنة كسفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق .
ا.هـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
حياك الله ، يشرفني تعليقك .