أسلوب الوصاية
إبراهيم السكران
الوصاية ضد الشبهات مطلب شرعي، وواجب أن يقوم به الداعية لحفظ دين الناس، ومن تنصل من الوصاية ضد الشبهات فقد خان الأمانة، وعرض الناس للبلاء، والله تعالي يقول (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
فهذا أمر صريح بالابتعاد عن مواطن الشبهات، ولم يقل جالسو الذين يخوضون وناقشوهم والعبرة بالافكار ويجب على صاحب المبدأ أن يكون واثقاً، ولماذا نخاف على ديننا من نسمة هواء، ولم يقل لهم لايعرض إلا الخائف غير الواثق، بل أمرهم صريحاً بالاعراض، وجعلهم إن لم يعرضوا خاضعين للشيطان، وأنه يجب عليهم إذا تذكروا أن يعرضوا.
وهؤلاء الذين يقولون استمع إلى كل قول وناقشه مخالفون صراحة لكتاب الله ولذلك قال الامام ابن تيمية في الاستقامة (فقد أمر سبحانه بالإعراض عن كلام الخائضين في آياته، ونهى عن القعود معهم، فكيف يكون استماع كل قول محمودا).
وهكذا –أيضاً- ما في سنن النسائي حين رأى النبي مع عمر ورقة من التوراة أخذها عمر للاطلاع التاريخي فقط، فغضب النبي وقال (أمتهوكون فيها يابن الخطاب) أفليست هذه وصاية محمودة يمارسها النبي على الناس ويشرعها لمن بعده للائتساء والاقتداء؟ وهل الرسول غير واثق بعقيدة عمر؟ وهل عقيدة عمر بهذا الضعف الذي يخشى عليه فيها من ورقة من التوراة؟!
وهكذا –أيضاً- لماكان صبيغ بن عسل يثير اشكالات على عامة الناس في متشابه القرآن، هل قال عمر بن الخطاب "من حق صبيغ أن يطرح مايشاء من الاشكالات" ولماذا الوصاية والاقصاء، أم علاه بدرته وعاقبه وأقره على ذلك أصحاب رسول الله؟ بل كان ابن عباس إذا رأى أحداً يتتبع المتشابه يقول له"ما أحوجك لدرة عمر"، بل صار أهل السنة بعده يذكرون هذا الفعل من مناقب عمر؟ أفليست هذه وصاية محمودة مطلوبة شرعاً؟
وهكذا –أيضاً- لما طرح بعض الباحثين في العقائد في عصر الشافعي إشكالات الجمع بين الفلسفة اليونانية والقرآن قال الشافعي "حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال" أفليست هذه وصاية محمودة مطلوبة شرعاً؟
أليس أهل السنة مطبقون كافة على النهي عن النظر في أي كتاب أو الاستماع إلى أي رجل يؤدي كلامه إلى رقة التدين؟
ولذلك نقل ابونعيم عبارة حكيمة للامام ابراهيم بن أدهم حين قال (كثرة النظر إلى الباطل تذهب بمعرفة الحق من القلب)
طبق كلمة ابن أدهم هذه على كثير من الشباب الذين ضللتهم فكرة "اطلع على كل شئ" وتقلص نظرهم في القرآن والسنة وكلام الربانيين؛ كيف آل بهم الأمر إلى رقة التدين وهذا ظاهر لكل أحد.
فكثرة الواردات الفاسدة وأثرها على القلب أمر لايستهان به.
وهذه من المسائل التي يكثر فيها الخطأ يظنون أن الوصاية مذمومة، وهي مطلب شرعي ضد الشبهات، ويظنون أن الاقصاء مذموم وهو مطلب شرعي ضد المضلين والمفسدين، فانظر كيف صارت المطالب الشرعية مذام ولاحول ولاقوة إلا بالله من غربة الدين؟!
وما أكثر ما يخطر لبعض المتعاطين للخطاب الثقافي تساؤل يقفز أثناء الدعوة للحصانة المنهجية فالكثير منهم يكرر هذه التساؤلات:
لماذا نخشى من نشر كتب الزنديق فلان ؟! لماذا نخشى من إتاحة البرامج التلفزيونية للمجدِّف فلان ؟! هل بلغ إسلام المسلمين هذا المستوى من الهشاشة لدرجة أن صرنا نخشى من كل نسمة؟! دع الزنادقة يتحدثون حتى يفتضحوا أمام الناس ..
الحقيقة أن مثل هذه التساؤلات تهدر اعتبارات جذرية من صميم "التكوين البشري" ..
فطبيعة عامة الناس والشباب خلال التاريخ أنهم لايملكون "علماً تفصيلياً" بأدلة مبادئ الاسلام والجواب عن الاعتراضات الواردة عليها ..
وهذا شئ طبيعي .. بل ومطلوب أصلاً .. لأنه لو تفرغ عموم المجتمع للعلم الشرعي التفصيلي وجواب الاعتراضات لتعطلت الفروض الكفائية الأخرى كالعلوم المدنية والصناعات والتخصصات الاجتماعية التي يقوم عليها المعاش ودنيا المسلمين ..
فعامة الناس والشباب معهم "إيمان مجمل" قد تزعزعه رياح الشبهات إذا لم يتيسر له متخصص أو مطلعٌ يزيل أشباحها عنه ..
ولذلك يفترض أن يكون السؤال معكوساً ..
فالسؤال .. ليس لماذا نخاف على غير المتخصصين من الشبهات ؟
بل السؤال: لماذا نخاطر بإيمان غير المتخصصين والمطلعين من أجل شعارات إعلامية تتصل بمفهوم الانفتاح؟!
وقد وجدت نصاً في غاية الروعة للامام ابن تيمية حلل فيه هذه القضية:
(فعامة الناس اذا أسلموا بعد كفر, أو ولدوا على الاسلام والتزموا شرائعه وكانوا من اهل الطاعة لله ورسوله؛ فهم مسلمون, ومعهم ايمان مجمل, ولكن دخول حقيقة الايمان إلى قلوبهم انما يحصل شيئاً فشيئاً, إن أعطاهم الله ذلك, والا فكثير من الناس لا يصلون لا إلى اليقين ولا إلى الجهاد, ولو شككوا لشكوا, ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا, وليسوا كفارا ولامنافقين؛ بل ليس عندهم من علم القلب ومعرفته ويقينه ما يدرأ الريب, ولا عندهم من قوة الحب لله ولرسوله ما يقدمونه على الأهل والمال, وهؤلاء ان عوفوا من المحنة وماتوا دخلوا الجنة, وان ابتلوا بمن يورد عليهم شبهات توجب ريبهم فان لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب والا صاروا مرتابين وانتقلوا إلى نوع من النفاق.
وكذلك اذا تعين عليهم الجهاد ولم يجاهدوا كانوا من أهل الوعيد, ولهذا لما قدم النبى المدينة أسلم عامة أهلها, فلما جاءت المحنة والابتلاء نافق من نافق, فلو مات هؤلاء قبل الإمتحان لماتوا على الاسلام ودخلوا الجنة ولم يكونوا من المؤمنين حقا الذين ابتلوا فظهر صدقهم) الفتاوى 7/271
والمراد أن الوصاية ضد الشبهات التي تسبب رقة التدين مطلب شرعي، سواء كان الذي يشيع هذه الشبهات زنديق علماني، أو من متفقهة التغريب الذين يغرسون في الناس النظرة المادية للحياة، ويهونون من تعظيمهم للنص باسم الخلاف، ويشحنون الناس ضد المحتسبين والدعاة دوماً بالسذاجة والتهور وضيق الأفق وقلة الوعي وأنهم يغرقون في كأس ماء ونحوها من العبارات التي يتشربها المستمع فتؤثر في نظرته لأهل العلم والدعاة بعامة، ويجمدون مشاعر الغيرة والحمية باسم الرزانة والحكمة والهدوء، ونحو ذلك.
والله أعلم
تابعني Facebook
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
حياك الله ، يشرفني تعليقك .