بسم الله
من معايير الفتوى
ألَّف ابن القيم - رحمه الله - كتاباً قيِّماً سماه إعلام الموقعين عن رب العالمين. تحدث فيه عن القضاء والفتوى وأن القاضي والمفتي يوقعان فيما يصدر منهما عن رب العالمين وأن ما يصدره كل واحد منهما هو في رأيه ودعواه حكم رب العالمين في القضاء أو الفتوى في موضوعهما. ولاشك أن هذه مسؤولية كبرى على كل واحد منهما، وأن هذه المسؤولية تقتضي الوَرَع والشعور بمقام رب العالمين لئلا يكون الواحد منهما ممن يشمله قول الله تعالى: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام) وقوله تعالى من جملة المناهي: (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) فسلفنا الصالح كانوا يتدافعون الفتوى حتى تعود إلى أول من دفعها. وكانوا ينظرون إلى القضاء نظرتهم إلى الهلاك وكان بعضهم يقول: من دفع إلى القضاء فقد ذبح بغير سكين.
وعليه فمن ابتلي بوظيفة منهما لاسيما بوظيفة الإفتاء سواء أكان ذلك بصفة إلزامية من ولي الأمر أم كان إلزاماً من رب ولي الأمر بصفته مؤهلاً لذلك من حيث العلم والعقل والدراية بأحوال الناس. من كان كذلك فعليه مراعاة ما يلي:
أولاً: أن يتأكد لديه أنه يقول ما يفتي به على أنه مراد الله في الفتوى فهو بفتواه يوقع عن رب العالمين فعليه أن يستشعر هيبة هذا المقام الخطير ورهبته.
ثانياً: أن يكون مؤهلاً للفتوى بذلك بحيث يكون ذا دراية بالنصوص الشرعية والدراية التعليلية والمقاصد الشرعية وغلبة الظن في تحقيق المصلحة فيما يقول.
ثالثاً: أن يفرق في فتواه بين ما وقع للسائل وما لم يقع له فيأخذ بمبدأ التيسير ورفع الحرج في الحوادث الواقعة مما هي محل الفتوى ما لم يكن في ذلك إثم. ويأخذ بالاحتياط والتوقي فيما لم يقع مما هو محل الاستفتاء وأذكر أن سماحة شيخنا الشيخ محمد بن ابراهيم - رحمه الله - كان يعلمنا هذا المبدأ في الفتوى قولاً وعملاً ومن العمل أن أحد المستفتين من عفيف ذكر للشيخ أنه كان متمتعاً في الحج ولم يسع إلا سعياً واحداً بعد طواف عمرة التمتع وقد مضى عليه أكثر من عام فأفتاه - رحمه الله - بقول بعض أهل العلم ومنهم شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله - أن يكفيه سعي واحد وإن كان متمتعاً إلا أنه لا ينبغي له في المستقبل إذا كان متمتعاً أن يكتفي بسعي واحد بل يجب عليه سعي لعمرة التمتع وسعي ثان للحج.
رابعاً: يجب على المفتي أن تكون له دراية بمقاصد الشريعة فإن الأصل في التشريع أن يكون محققاً لمصلحة العبد نافياً الإضرار به محققاً العبودية لله تعالى. وقد اعتبر جمع من أهل العلم والتحقيق المقاصد الشرعية علماً مستقلاً يجب على طالب العلم أن يسلك مسالكه. وقد ألف بعض المحققين من أهل العلم أمثال الشاطبي والعز بن عبدالسلام وابن تيمية وابن القيم كتباً في المقاصد الشرعية واعتبار العلم بها من أهم ما يجب على القضاة والمفتين الاهتمام به.
خامساً: النظر في أحوال المستفتين فلئن كان موضع الاستفتاء من مُسَتْفتَيين واحداً فقد يكون الاختلاف بينهما في الحال ونذكر لذلك مثالاً فقد ثبت أن شاباً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القُبلة للصائم فنهاه صلى الله عليه وسلم عنها وسأله مُسنّ عن القُبلة فأباحها له وهو صائم. ففرق صلى الله عليه وسلم بين الاثنين من حيث أثر القبلة على صحة الصوم إذ تأثيرها على الشاب ليس كتأثيرها على المسن.
سادساً: إذا كان للفتوى اثر متعدٍ إلى الإضرار بالمجتمع من حيث أمنهم وترابطهم واتحاد كلمتهم واتجاههم فيجب الكف عنها ولو كانت في أصلها صحيحة. فمن القواعد الشرعية: أن تترك أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما. وان ترتكب أدنى المفسدتين لتفويت أعلاهما. وقد طبق عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - هذه القاعدة: حيث كان حاجاً مع جمع من الصحابة بأمارة أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وقد تزوج عثمان - رضي الله عنه - في حجه وفي منى فَأمَّ رضي الله عنه المصلين في منى أيام التشريق وأتم بهم الرباعيات - الظهر والعصر والعشاء - فجاء إلى عبدالله بن مسعود بعض الصحابة واستنكروا عنده إتمام عثمان للصلاة الرباعية وقالوا: يا أبا عبدالرحمن ألا تعرف سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟- ويعنون بذلك قصر الصلاة الرباعية في الحج في منى - فقال لهم أعرف ذلك ولكننا نخشى الفتنة.
سابعاً: إذا كان موضوع الفتوى فيما يتعلق بالولاية العامة فيجب أن يكون بذلها بما لا يترتب عليه تشنيع أو تشييع أو إثارة وأن تكون على سبيل النصيحة وبيان الحق والالتزام بأدب أدائها من حيث العرض والبعد عن الهمز واللمز والتجريح إلى نحو هو أقرب إلى القبول والتسليم.
ثامناً: إذا كان بمرتبة الاجتهاد أو قريباً من ذلك بحيث يكون لديه ملكة فقهية يستطيع بها الاختيار والترجيح فلا يكون من موازين ترجيحه واختياره أن هذا القول قال به فلان وفلان من أهل العلم دون أن يكون ذلك القول مبنياً على تعليل وتدليل وتأصيل وأخذ بالمقصد الشرعي. فالعلماء يحتج لأقوالهم ولا يحتج بأقوالهم. وإنما الذي يحتج بأقوالهم أنبياء الله ورسله.
تاسعاً: من المسالك السليمة في استقرار أحوال الناس والمحافظة على ثقتهم بعلمائهم وقادتهم رعاية ما كانوا عليه من مسالك سليمة اطمأنت نفوسهم بها واستقرت أحوالهم على الأخذ بها فيجب على طلبة العلم ومَن يؤهلون أنفسهم للقول على الله أن يتقوا الله وأن يتركوا عباد الله على ما كان عليه آباؤهم وأجدادهم من مسالك سليمة في عباداتهم وأخلاقهم وتعاملهم وعاداتهم وتقاليدهم مما هي مستمدة من أصل دينهم وبتوجيه من علمائهم وقضاتهم وذوي العقول فيهم.
فعلينا معشر طلبة العلم أن نتقي الله تعالى وأن نترك مجتمعنا على ما كان عليه وكان عليه أسلافه وأن لا نثير مسائل خلافية بين أهل العلم تكون نتيجة إثارتها زعزعة الثقة في أحوال واقع مجتمعنا وفي قادتنا من علماء وولاة فقد جاء التحذير الشديد من الخروج على ما عليه الأمة من ولايتها وأمنها واستقرارها. وأن إثارة أمور يكون غالب الأمر في إثارتها الظهور ولفت النظر تعتبر من أكبر التجاوزات الأثيمة وأن صاحبها أهل للعقوبة في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وأختم هذه الإطلالة من النافذة بقول أحد المتبرمين من مسالك بعض اخواننا ذوي الإثارة وحب الظهور حيث قال: لقد تعلمنا من مشائخنا وفي مدارسنا أن نواقض الوضوء ثمانية واليوم لم يبق منها إلا أربعة أو أقل. وقل مثل ذلك في كثير من الأحكام في الطهارة والعبادة وأحكام الأسرة والمعاملات وغير ذلك حيث ابتلينا بقوم كل يوم يخرج واحدهم بفتوى يريد بها هدم ما كان عليه آباؤه وأجداده من ورثة ما عليه أسلافنا الصالحون.
وأختم قولي بهذا الدعاء الجامع المانع الشامل: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا.. والله المستعان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
حياك الله ، يشرفني تعليقك .