صحيفة المسك: بعضُ الغناء جميلٌ.. ولكنَّ غداً أجملُ
قال أبو عبدالرحمن : لا أجملَ ولا أرقَّ من ثوب الحرير: برودةً على الجسم، ونعومةً، وجمالاً.. ولكن الله عوَّضنا بالطيبات من الرزق، وحرَّم علينا لبس الحرير اتباعاً لمرضاته، وتقديماً لرضاه - سبحانه - على أهوائنا.. وهناك تعويض أُخروي أبديٌّ للمؤمنين؛ إذ يكون لباسهم حريراً.. واللحية - وإكرامها في تهذيبها - وقار وجمال، ولكن الأمرد أجمل، وهو لا ينوء بعبء اللحية ترجيلاً وتطييباً وتهذيباً، وجزاء من قضى الله دخوله الجنة بَدْءاً أو بعد تطهير أن يدخل الجنة وهو أمرد.. ولا أجمل ولا أمتع من الذهب والفضة: أساورَ كثيرة في اليدين، وخواتمَ مرصوصة في الأصابع، ودناديش تتدلَّى من الرقبة حتى ليكاد يغطس بها السباح الماهر..
ومثل ذلك في المتعة آنية الذهب والفضة، ولكنَّ الله حرم علينا ذلك، وعَوَّضنا عاجلاً بالطيبات من الرزق، وحرَّم علينا ذلك حِلْيَةً وآنيةً، وأباح الحلية للنساء، وحرَّم عليهنَّ إلجاء المال باسم الحلية فراراً من الزكاة، وأما ما كان حلية على الحقيقية فلا زكاة فيه على أصح الأقوال..
وحرَّم علينا كنز الذهب والفضة بلا زكاة، وحث على توظيف المال في المنافع كي لا تقرضه الزكاة، ولكي يُحقِّقوا عمارة الأرض.. وفي لبس الذهب والفضة واستعمال آنيتهما كسر لخواطر الفقراء..
ثم العوض الأخروي الأبدي لمَن دخل الجنة بدءاً أو بعد تطهيرٍ الجمالُ والمتعةُ بالذهب والفضة والأحجار الكريمة لباساً وآنية.. والخمر والميسر ليسا خالصين للمنفعة والمتعة، والخمرة بالذات زادت الآن داء يتلف الكبد، وهو السبيرتو، وكان القدماء لا يعرفون ذلك الداء، وكانوا يُعتِّقونها، وكانت كعين الديك تتطاير شعاعاً في الكأس، ولكنْ فيها إنزاف وضياع عقل ثم فساد سلوك، وفيهما متعة.. قال الله سبحانه وتعالى: " َسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ " [سورة البقرة/219]؛ فأما الخمر فعوَّضنا الله في الدنيا بشراب الصالحين من الطيبات من الرزق، وفي الآخرة كما مر عن التعويضات الأخروية الأبدية هناك خمرة مفرحة ليس فيها صداع ولا نزيف ولا سلوك مَهين.. والغناء الذي حرَّمه الله - سبحانه وتعالى - بوضعيَّته المحدَّدة شرعاً فيه جمال ومتعة وفرح ونشاط، ولكننا نترك استماعه مرضاة لله وإن كنا نحبه، والعوض الدنيوي يكون بتكوين عبادةٍ قد تكون صعبة أول الأمر، وهي الاستمتاع بكلام الله متغنِّياً به على عادة العرب في التجويد والنظم محاولاً تحسين الصوت لتجارب كثيرة، واستماعه من مقرئ جيد حلو الصوت أعظم حبوراً؛ فهذا ليس تعويضاً وحسب، ولكنه يملأ القلب فرحاً وأشواقاً ليست كالأتراح والضيق التي تعقب سويعات الاستمتاع بالغناء، وهذه تجربة صادقة مارستها في حياتي..
هذا بالإضافة إلى الاستمتاع بالمباح من شدو الأطيار، وحفيف الأشجار، وخرير المياه، مع الترنم بالأشعار.. على أن من التذَّ باستماع الذكر الحكيم بالتغني لا بالغناء لن يحتاج إلى متعة سماعيَّة أخرى.. وهكذا كل ما حرمه الله علينا من هذا النوع الذي فيه جمال ومتعة؛ ففيه تعويض دنيوي وأخروي مع قدرة المسلم على إتقان التوازن بين نوازعه من منطلق قلبه المفعم بالإيمان، وعقله المميز للأحق والأجمل وما هو أكثر خيراً، والعوض الأخروي عن المحرم من الغناء استمتاعهم بالأصوات الجميلة من المعازف والقيان، ولست أدري ما العوض عن الميسر، ولكن الذي أعلمه أن أهل الجنة في نعيم لا يطلبون عليه مزيداً إلا رؤيتهم لربهم سبحانه.
قال أبو عبدالرحمن: أثار شجوني هذه المقرئُ ذو الصوت الجميل عادل الكلباني الذي أفتى بحل الغناء بإطلاق، وكنت عظيم الخشية وكثيراً ما تماطرت دموعي لسماعي إحدى تلاواته لسورة يوسف، وهو - حفظه الله - مصرحٌ بأنه لا يسمع الغناء، ولكنه أباحه بإطلاق؛ لأنه مقتنع بأدلة التحليل من الشرع على الإطلاق، ولست أدري لماذا تأخرت فتوى حبيبنا إلى هذا الوقت، فلعلَّ التجاذب الروحي بينه وبين حبيب الجميع فضيلة الشيخ الدكتور عايض القرني أوحى له بالاهتمام بهذه المسألة بحثاً وفتوى؛ لأن قصيدة الدكتور عايض غُنيت برضاه.. على أنني عارضته هاتفياً، ودفعني الحب الأخوي المكين إلى الحماس في النبرة، ولو غُنِّيت هذه القصيدة بغير علمه، ولو غناها مثل محمد عبدالوهاب أو رياض السنباطي لأوحيتُ له بعذر أتحمَّل بعض وِزْره وهو: (لم آمر بها ولم تسؤني)؛ فكيف والمطرب صوت (الله يديم الفضل والنعمة؟).. ولست أدري لماذا تأخرت هذه الفتوى عن الوقت الذي أُهين فيه الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - في السعودية كثيراً لأسباب منها إباحته الغناء، وكان يومها قد انشق عن حزب الإخوان؟.
قال أبو عبدالرحمن: مارستُ الغناء استماعاً لا سماعاً حقبة ليست بقليلة من عمري، وأصحاب هذه الممارسة يُسَمِّيهم أخوال بعض أولادي: (الصُّيَّع الضُّيَّع)، ولكنني تفاديت ذلك بأن يكون استماعي في سويعات ليست مهيأة لقراءة أو كتابة أو عبادة، وأكثر ما يكون ذلك مع بعض السامرين، أو في بعض الردهات، أو بالاستماع من الراديو، ولا أُضَيِّع عزائمي الدنيوية والشرعية بالانمياع مع الغناء؛ وإنما آخذ منه مقدار ما أنشط للعمل الجاد، وعندما أنشب في كتابة بحث وأحس بخمول أستمع إلى التسجيل بصوت خافت.. وهناك سويعات صرفتها للغناء مستمعاً ودارساً وملتقطاً ما يُفاد منه للجماليات ولا سيما العَروض، وذلك عندما كنت مراقباً في التلفاز، وفي إجازاتي التي أمضيتها بكفر أبو صير.. وكنت محتفياً بأجمل الجميل مما يؤدِّيه أساطين الطرب العربي الأصيل منذ جيل الطرب الشرقي إلى جيل عبدالوهاب ورياض.. ومع انهماكي في الاستماع بالطرب فلو خلصتْ تلك الحقبة لهذا لكنت في ترح ما بعده ترح، ولكنني أتحيَّف من تلك الحقبة أُويقات لتزكية الروح والقلب مع جدٍّ في البحث والكتابة والقراءة لم يمنع منه استماعي الغناء.. وما كان هذا في بداية الأمر اختياراً مني، ولكنني تورطتُ معرفةً باستدلالات الإمام ابن حزم على إباحة الغناء مع تصريحه بأن ترك سماعه أفضل، وتورطتُ ممارسةً بمجالسة الظرفاء.. وعندما اتبعتُ الإمام ابن حزم، رحمه الله تعالى، وكنت في حيوية الشباب ومنتهى الحماس للإعجاب بالإمام ابن حزم رحمه الله تعالى - ولا يزال إعجابي باقياً -: أخذتُ قوله تقليداً، ولخصت في كتابي (تحرير بعض المسائل على مذهب الأصحاب) ما كنت أزعمه من أن النصوص الشرعية في الغناء:
1 ـ إما قطعية الدلالة والثبوت على التحريم، وأن هذا لا يُوجد، وإما نصوص قطعية الدلالة والثبوت على التحليل، وأن هذا وُجِد.
2 ـ وإما نصوص قطعية الدلالة على التحريم غير قطعية الثبوت وهذه لا يُعتدُّ بها إذا عورضت بما هو أثبت، وضربت أمثلة بالأحاديث الضعيفة الواردة في ذلك.
3 ـ وإما نصوص قطعية الثبوت غير قطعية الدلالة على التحريم، وزعمت أن من هذا الباب قوله تعالى: ?وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ? [سورة لقمان/6]، وزعمت أن الغناء ليس حديثاً، وزعمت أن لهو الحديث أعم من الغناء كالتشبيب بالمساتير.
4 - وإما نصوص قطعية الثبوت غير قطعية الدلالة على التحليل، ولم أذكر أمثلة؛ لأن المثال الافتراضي جائز هنا كما أن القسم الافتراضي جائز في حَصْر القِسْمة فالأمثلة والتقسيمات تحتمل الفرضيَّات.. ثم ذكرت فيما بعد حديث المعارف الذي أعله الإمام ابن حزم - رحمه الله تعالى - بالانقطاع؛ فرأيت أنه صحيح الثبوت غير قطعي الدلالة؛ لأن الوعيد في هذا الحديث ليس على الغناء والمعازف وحدهما بل في السياق ما هو محرم بتعيين كالزنا والخمر.
5 - وإما نصوص غير قطعية الدلالة وغير قطعية الثبوت؛ فهذه لا يُعتدُّ بها وإن لم أذكر لها أمثلة.
وعندما عزفت عن استماع الطرب - ومنه ما هو أقبح من مواء القطط، ومنه ما هو في منتهى الجمال يحرك وجداني - مرضاةً لربي لم أكن بعدُ اجتهدت في تحقيق النصوص الواردة في الغناء، ولا ريب أن اجتهاد من بلغ سن الورع، وأيقن بقرب الرحيل غير اجتهاد من كان في فوعة الشباب محكوماً بالإلف والعادة والتقليد لمن يحب.. نعم لم أكن اجتهدت بعد في ذلك، ولكن الأمر كان مني عزوفاً نفسياً؛ لأنني لم أستمتع بالقرآن الكريم في تذوُّق أسلوبه، وفهم معانيه واستنباط براهينه، والتفاعل مع ما فيه من أشواق القلب والروح وإن كنت أُدندن من خلال المذياع (بتفسير التفاسير)؛ فذلك جدل عقلي علمي لم أُحسّ قط أنه لامس قلبي مع ما فيه من جهد، وكانت النية غير خالصة؛ لأنني أتقاضى من الإذاعة أجراً مالياً، وكان دافعي للبرنامج الحاجة، ولأن السمعة وبعد الصيت مما لا أكرهه.. وما وجدتُ لتلاوتي للقرآن، ولا بمراجعتي كتب التفسير، ولا لممارستي بعض العبادات لذة كهذه اللذة التي وجدتها بعد أن هجرت الغناء.. بل ثبَّت الله يقيني وله الفضل والمنة؛ فكان خبر ربي المُغيَّب كالحقيقة العيانية أمام ناظري بلا ريب، وكان كمال الله المطلق وتنزُّهه المطلق أمرين يجيشان في قلبي ولا يقدر عقلي على إحصاء ذلك أو تصوره إلا بالتقديس المطلق و التحميد المطلق كما قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: (لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)، ثم جمَّعت الرسائل والمؤلفات والبحوث في الغناء، وعهدت بتحقيق بعضها إلى عدد من الزملاء بإشرافي، وأدمنت التصفح في أزمان متوالية لهذه المصادر ولا سيما كتاب الإمتاع للأدفوي؛ فتبين لي من الناحية الشرعية ما يلي:
1 - أن هذه المسألة الخلافية لم يقل فيها أحد من العلماء بإباحة الغناء على الإطلاق، بل لكل عالم استثناءاته، فمنهم من يبيح السماع من جاريته ولا يبيحه من غيرها، وهكذا كان صنيع الإمام أبي محمد ابن حزم مع جاريته ضُنى العامرية - رحمهما الله تعالى -؛ فقد كانت تجيد العزف على العود يوم كان العود زريابياً على أربعة أوتار.
2 - أن أسباب حدَّتي في النقاش لما كنتُ أبيح بعض الغناء ولا سيما مع الشيخ حمود التويجري - رحمه الله تعالى - أنني وجدت يبوسة وتضييقاً على المسلمين في أشياء من الغناء لم يرد نص شرعي بتحريمها؛ فهذه لا تُعالج بالتحريم، وإنما تُعالج بالوعظ الفكري عما هو أولى وأحمد عقبى.. وكنت أُلح على أن ما حرَّمه الله من الغناء فقد حرَّمه لغيره؛ فإذا سَلِمْنا من الغيريات المحرمة كمصاحبة الخمر والزنا ومجون الكلمة وتجديفها فلا نُحرِّم من الغناء إلا ما قطعنا بتحريمه دلالة وثبوتاً.. وأما غناء الدراويش فهو مرفوض جملةً وتفصيلاً، وفيه افتيات على الله بتسميته ذِكراً، وفيه تهويمات صوفية قد تصل إلى الحلول والاتحاد والتوسلات المحرمة والغلو مع التمايل العنيف والهياج المثير للغثيان، والانتقال من (الله حقاً) إلى (هو هو) إلى (أو أو) إلى (آ آ)؛ فهكذا أصبح التلاعب باسم الجلالة إلى هذا الحد.
3 - حديث هشام بن عمار - رحمه الله تعالى - لا شك في صحة ثبوته.. رواه البخاري في صحيحه؛ فقال: (وقال هشام بن عمار)؛ فهشام شيخ البخاري - رحمهما الله تعالى -، وقد ثبت سماعه منه؛ فإذا قال البخاري عن شيخه: (قال فلان) ولم يقل: (حدثني) فقد أخذه عنه مناولةً أو عرضاً أو مذاكرةً، وكل هذا من الإسناد الصحيح المتصل، وقد رُوي بأسانيد صحيحة ليس فيها تعليق؛ وإنما حملتُ الحديث دلالة لا ثبوتاً على قاعدة صحيحة، وغفلت عن علاقة صحيحة أيضاً؛ فالقاعدة الصحيحة أن كل جريمة أكبر من العقوبة الشرعية في الدنيا؛ فالقاتل عمداً يُقْتل قصاصاً؛ فهذه مُعادلة ومماثلة.. على أن القاتل اجترم أكثر من ذلك بمخالفته أشياء نهى الله عنها كثيرةً؛ فقد نهى عن الغضب، وأمر بالصبر والعفو، ونهى عن هوشة الأسواق، وعن حمل السلاح مازحاً أو جاداً.. إلخ؛ فما سوَّلت له نفسه القتل عمداً بغير حق إلا بعد تخطِّيه كل هذه الحُجَز.. وعقوبة قوم لوط ليست من أجل اللواط وحده، وعقوبة قوم شعيب - عليهما السلام - ليست من أجل نقص الميزان وحده، بل كفرهم ومحادَّتُهم لله، وإيذاؤهم لوطاً وشعيباً - عليهما وعلى نبينا محمد وعلى جميع أنبياء الله ورسله أفضل الصلاة والسلام - كل ذلك هو الجريمة التي أوجب الله بها العقوبة.. وهكذا حديث هشام بن عمار نصُّه: (ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحِرَ [الفرج المحرَّم] والحرير والخمر والمعازف..).. إلخ، ثم كان الوعد بالعقوبة: (فَيُبَيِّتهُم الله).. وسياق الحديث دال على أن ذلك آخر الزمان عند ارتفاع العلم، وقرب الساعة، وشيوع الإباحية، وقِلَّة الخير.. وبغض النظر عن هذا فالعقوبة لكل هذه الأشياء وفيها كبائر موبقة كالزنى والخمر؛ فليست العقوبة للغناء والمعازف وحدها؛ فهذه قاعدة صحيحة.. وأما العلاقة الصحيحة التي غفلتُ عنها فهي ارتباط الغناء والمعازف بمحرمات، ولم تكن هي من الكبائر، فهي من المحرمات حرمة دون ما ذكر في السياق إلا ما استثناه نص، وهي في حكم حرمة الحرير.. وتنبغي الإفادة من مثل كتاب (تحريم آلات الطرب) للألباني - رحمه الله تعالى - من ناحية الصنعة الحديثية لا الفقهية، مع أنه أضعف كتبه في التوثيق، وقد جاء بكل جهده.. وأما مثل كتاب (ذم الملاهي) لابن أبي الدنيا فلا يُعْتَدُّ به؛ لأنه كُنَّاشةٌ لكل رواية سقيمة.
4 - الآية الكريمة من سورة لقمان لم يظهر لي إلى الآن بتوثيق دلالي أن {لَهْوَ الْحَدِيثِ} عُرْفٌ على الغناء، ولا أن الشعر الذي يُغَنَّى به يكون حديثاً.. ثم إن السياق يمنع من تخصيص {لَهْوَ الْحَدِيثِ} بالغناء أو دلالته عليه وهذا هو السياق ?وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ، وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ? [سورة لقمان/6-7]؛ لهذا حديث اتخذه الكافر للصد عن سبيل الله واتخاذها هزواً، ودلَّ لحن السياق على أن {سَبيلِ اللّهِ} هنا هي القرآن؛ فقال تعالى: ?وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ?؛ فكل هذا كفر وعيده عذاب مهين أليم، ولم يرد في الغناء هذا الوعيد الشديد، بل كل ما صُدَّ به عن سبيل الله، واتُّخِذَ هزواً بآيات الله - من حديث نثري، أو غناء بالشعر إن دخل في لهو الحديث - فهو كفر، ولكن وُجد غير هذه الآية الكريمة في صفة الغناء المحرم، وهو قوله تعالى مخاطباً الشيطان الرجيم: ?وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً? [سورة الإسراء/64]؛ ولدقة استنباط أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: (أمزمار الشيطان عند رسول الله) - صلى الله عليه وسلم -.. والحديث الصحيح - بتعدُّد طرقه الحسنة والصحيحة - في تحريم كل ذات زَمْرٍ، وهو شامل لكل آلات الطرب إلا ما استُثني كالدَّف: حديثُ عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما -.. قال نافع - رحمه الله تعالى -: كنت أسير مع عبدالله بن عمر في طريق، فسمع زمَّارة [هي البوق]؛ فوضع أصبعيه في أذنيه، ثم عدل عن الطريق؛ فلم يزل يقول يا نافع أتسمع؟.. قلت: لا.. فأخرج أصبعيه من أذنيه، وقال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.. إلا أن الدلالة فيه على الكراهية؛ لأنه لم يذكر عن رسول - صلى الله عليه وسلم - البحث عن الزامر لنهيه.. والكراهية تشمل ما هو فوق أنغام البوق من الآلات المتناوحِة؛ فهذا هو برهان الأولوية حقاً.
5 - نهيق السِّمِّيعة لا شك في حرمته لحديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - الصحيح بإسناده وشواهده: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند نعمة، ورنَّة عند مصيبة.
وبالدلالة يدخل في هذا النهي الضجيج الهائج عند دخول الكرة التافهة في الملعب.
6 - ما ورد في الغناء المحرَّم المصحوب بالمعازف لا يخلو كل سند من أسانيده من مقال، ولكن النصوص تضافرت وتظاهرت؛ فكان إهمالها هو المرجوح، وإعمالها هو الرجحان، وهو الموافق للسيرة العملية قبل الاختلاف، والسيرة العملية هي قمة الإجماع.
7 - المباح الذي صحت به النصوص إنما هو غناء الركباني وليس معه آلة، ويصحبه الدف مع النساء بمثل (أتيناكم أتيناكم)؛ فقد روت عائشة - رضي الله عنها - الرخصة فيه لنساء الأنصار، وهو في عاميتنا ألحان الهجيني بلا آلة.. ومثل الدف في العرس كما في حديث الرُّبَّيِّع بنت مُعَوِّذ - رضي الله عنها -، ومثل غناء الحماس في الحرب - والدف دائماً غير لائق بالرجال -؛ فهو الحداء عند العرب ببحر الرجز، وهو في عاميتنا حداء وألحان عرضة، ويصحبها الطبل المُصْمَت للرجال، وهو غير الدف، ويُسمى (الكُبَه) وفي تحريمه نص، ولكن توارث الإلف والعادة جعله حلالاً في العرضة والسامر.. ومثل الغناء الساذَج بلا آلة لإقامة وزن الشعر.
قال أبو عبدالرحمن: وخلاصة هذه العناصر أنه لا يجوز إباحة المعازف عموماً؛ لأن أقل أحوالها الكراهية، وليس المكروه من المباح، والمستثنى الدف للنساء في العرس.. وكراهيةُ المزمارِ المسمى بوقاً وشبَّابة ويراعاً وقصبة الراعي كراهيةٌ لما هو أخص من المعازف المحرَّمة كما مر من رواية هشام بن عمار رحمه الله تعالى.. وليس كل محرم يصل إلى حد الكبيرة، ومن ضعفت عزيمته واستمتع بسماع هذه المعازف المحرَّمة مثلي فيما سلف من عمري فلا يحل له أن يفتي بحل ما هو راجح التحريم؛ فإن ذلك يجرح العقيدة، وإنما يُقِرُّ ويعترف بضعف نفسه وأنه استمتع بسماعٍ محرَّم لا يستبيحه عقيدةً، وأنه مُسَوِّف بالتوبة.. والشيخ الكلباني منَّ الله عليه بحفظ القرآن بهذا التجويد الرائع وبهذا الصوت الجميل، وقد عصمه الله بإقراره من استماع المعازف؛ فهما نعمتان ما أكبرهما لم يتمتع بهما ابن عقيل الظاهري؛ فما باله - حفظه الله - يتحمَّل عن غيره - وهو في عافية - مؤونة الفتوى بالحل، والأمر كما أسلفتُ، ولقد كفاه مؤونة هذا الوزر سالم بن علي الثقفي في كتابه الخاسر (أحكام الغناء والمعازف، وأنواع الترفيه الهادف)، ومن هذا الترفيه الهادف عنده الرقص!!.. وإذْ رجَّحتُ أن حديث هشام بن عمار عن آخر الزمان قرب قيام الساعة، وأن مع الغناء غيريَّات، ونحن الآن في ذنب الدنيا: فعلينا أن نشفق على أنفسنا من ملهى تتناوح فيه المعازف، ثم تأتي فنون الغناء، ثم يتهافت كل خنفس وهيفاء وعِرِّيٌ عِنْتِيت، ثم الصَّفير، ثم تتوافد الغيريَّات الأخرى؛ فيأخذنا الله بياتاً عياذاً بالله ولياذاً به سبحانه.. هذا من ناحية الخلاف الفقهي، وأما من ناحية تجربتي فقد كان يهزنا الحماس إذا سمعنا مثل (أيها العربي الأبي) بصوت مطرب العرب محمد عبدالوهاب؛ لأن لنا سمعةً فوق القِشَّة تَعِدَ بوحدة عربية من المحيط إلى الخليج؛ وهكذا قصيدة السودان بصوت السِّت. ونستمتع بالصوت الجميل وبعض المعاني الملامسة لأشواق الروح في مواضع من (حديث الروح) و(إلى عرفات الله), و(ولد الهدى) و(ريم على القاع)، ثم تشمئز نفوسنا عند سماع الغلوِّ والتوسُّل المحرَّم، ونتعاطف مع مشاعر العُشَّاق إذا سمعنا مثل (عندما يأتي المساء) و(ساعة ما بشوفك جنبي)، وكلاهما لعبدالوهاب.. ولم نجترم من (الإثم) ثّمَّ إلا سماع المعازف.. ثم جاءت العثرات التي لا (لعاً) لها عندما جاء عشق الصورة، والهيام مع الأوهام، واستعباد القلب بمثل (الصوت الدافئ)، وما أشبه ذلك من مُكرِّسات التعبيد؛ وبهذه التجربة المخذولة - بحمد الله - علمت أن مثل هذا الغناء بَريدُ الفاحشة أو أنه تمنٍّ لها، وقد سجلتُ ذلك على نفسي بقولي:
وفي ضَيْعةِ الأوهام همتُ مُخَدَّراً
بصوتٍ حنون ذي شجون وتصفيدِ
يجيش بأنات الجوى مُتمظْهراً
ولم يشكُ حرماناً ولا كَرْبَ مفؤود
فصفَّق قلبي في حنايا جوانحي
دهاه وداد ظِلُّه غير ممدود
أُعلِّل نفساً في سراديب ظُلْمة
بكذب الأماني أو بأضباع تجعيد
وعلمت أن الغناء ينبت النفاق في القلب، وقد صح ذلك عن ابن مسعود من كلامه - رضي الله عنه -، وليس كل نفاق هو نفاق أهل الدرك الأسفل من النار، ولكنه من خصالهم التي قد يعفو الله عنها برحمته، وقد يعذب عليها بعدله؛ فأول علامات النفاق أننا نخفي استمتاعنا عن الصلحاء، وأننا نتظاهر بأننا نُروِّح عن قلوبنا، ونكتم ما في تلك القلوب من حب محرم ولو أتيح بالحلال فهو لا يليق لفساد ذلك الوسط المحبوب.. وأن قلوبنا مشحونة بالأماني المحرمة، وأن قلوبنا مستعبَدة، وأن ذلك صدنا عما حرم الله علينا هجره، وهو القرآن والذكر الحكيم.. وأتحدى أن يوجد هائم مع الطرب وله صلاة تهجد تدوم له أسابيع في العام غير شهر رمضان.. وأتحدى أن يوجد هائم مع الطرب يصح له بعض الانتظام مع تلاوة القرآن إلا في رمضان أو بعض الجمع إن ذهب مبكراً، أو في نفحات يشعر فيها بِبُعْدِه عن ربه.. وفي كلمات الغناء مجون وتجديف وهز وغمز؛ فكيف يكون مباحاً بإطلاق.. وأما غناء هذا العصر - عصر الأصباغ والطقطوقة والكلمة العامية المتلعثمة والصور والأزياء - فهو قبل استفتاء الشرع محرَّم فنياً وجمالياً؛ لقبحه، وناهيك عن دعوى خُلُوِّه من العناصر الجمالية؛ فيكون حينئذ بارداً لا قبيحاً؛ فالحمد لله شكراً شكراً الذي أسرع بفيئتي قبل لقائي له، ومنحني التمييز بين مواضع الإحسان والإساءة في تأرجحات عمري المضطربة، فأسأل الله الثبات حتى الممات، وحسن الخاتمة، وأسأله جلت قدرته برحمته وبجميع أسمائه الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم أن يعفو عني وعن إخواني المسلمين، وأن يخفف حسابنا، وأن يستر علينا عند لقائه؛ إذ يكون حياؤنا منه عن قبائحنا أشد إن وجدت عندنا مِسْحة من الحياء منه سبحانه في دنيانا، ونسأله أن لا يفضحنا بقبائحنا يوم يقوم الأشهاد ولا سيما عند من نستحيي منهم ونرجو أن نحشر في زمرتهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.. إنه عفو غفور، رحيم وودود.
قال أبو عبدالرحمن: ومما يلاحظ أن ما أبيح من الغناء كان إذناً أو إقراراً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن ممارسة له ولا للمقدَّمين من أصحابه - رضي الله عنهم -؛ لأن محياهم ومماتهم لله رب العالمين: ?قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ? [سورة الأنعام/162]، ولنا فيه - عليه الصلاة والسلام - وفيهم - رضي الله عنهم - أسوة حسنة.. ويلاحظ أن ما جرى عليه العرف في أجيالنا كفحيح الدَّحة والقفز والتصفيق والرمي بالكوفية (الطاقيَّة) وما فوقها والصفير والصياح.. كل ذلك لا يصل إلى سهولة الإباحة، وأقل أحواله الكراهية؛ لأنه بَطَرٌ بمقابل النعمة، ويعارضه مثل قوله سبحانه وتعالى: ?وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً? [سورة الإسراء/37]، وقوله سبحانه وتعالى: ?وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ?[سورة لقمان/19].. ويلاحظ أغلوطة المزج بين الغناء والتغني؛ فالتغني في هذا الباب معنيان:
الأول: تكلُّف الغناء من غير محترف له؛ من أجل إقامة وزن الشعر كما في قول حسان - رضي الله عنه -:
تَغَنَّ بالشعر إما كنتَ قائلَه
إن الغناء لهذا الشعر مضمارُ
فجعل الغناء تفسيراً للتغني، وهو غناء ساذَج من غير آلة، ويقوم مقامه في عاميتنا الحورية والهوبلة والهينمة.. وقد رأيت عبدالله اللويحان في المَلْعبة إذا بحث عن لحن كالشيباني مثلاً يقول: (هَهَا ها ها) ويُردِّدها أربع مرات للشطر الواحد.
والثاني: تكلُّف حسن الصوت، وحسن الأداء وَفْق العادة العربية التي هي (علم التجويد) الآن، وما أُثر عن العرب من تغيُّر نغمات النطق بين التعجب والإنكار والتوبيخ.. وما زاد عن ذلك من نغمات تُسلك في سمط أنغام منظَّمة مسافة ومكاناً، والتلاعب بالمدِّ فوق ست حركات؛ فذلك الغناء المحرم قراءة كلام الله به، والثاني هو التغني الواجب تعلُّمه والتطبع عليه، والتمرن على أكثر من صوت حتى يستقر له صوت يكون هو أقصى ما عنده من تحسين الصوت؛ فيستمر عليه، والله المستعان.
وكتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
- عفا الله عنه -
الجزيرة