قال الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحِسَابِ﴾ (الرعد:41)، قال جماعة من أهل التفسير: تنقص أطراف الأرض بموت العلماء، وقد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إِنَّ الله لا يَقْبِضُ العلمَ انتزاعا يَنْتَزِعُه من الناس، ولكن يَقْبِضُ العلم بِقَبْضِ العلماء، حتى إِذا لم يُبْقِ عالما: اتَّخَذَ الناس رُؤوسا جُهَّالا، فَسُئِلُوا، فأفْتَوْا بغير علم، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا».
ولما توفي زيد بن ثابت - رضي الله عنه - وقف ابن عباس - رضي الله عنهما - على قبره، وقال: هكذا يذهب العلم.
فهكذا هو الحال في غابر الزمان والأحوال؛ حيث فُجعنا بوفاة العالم الجليل، والزاهد النبيل، علامة المنقول والمعقول، نابغة الفروع والأصول، شيخنا الشيخ عبدالله بن غديان، عضو هيئة كبار العلماء - رحمه الله تعالى -.
عرفته وأنا في الثانية والعشرين من عمري، وحضرتُ بعض دروسه في الأصول وقواعد الفقه بقراءة الشيخ القاضي عبدالعزيز بن قاسم ومعالي الشيخ صالح آل الشيخ وصالح العقيل وغيرهم، وكان الحضور حينذاك قليلا، والمقروءات كبيرة الحجم غزيرة الفائدة، فكان شيخنا يتكلم بالقليل، ولكن من العيار الثقيل! كلمات معدودة يلخص بها طويل الكلام، فتتجلى فيه دلائل سعة العلم، وما العلم إلا قلة الكلام مع كثرة الفائدة، وهكذا هو شيخنا رحمه الله تعالى.
رأيته متواضعًا في جميع أحواله، زاهدًا لا يميزه الناظر عن غبراء الناس بشيء، ينظر بعقله أكثر من نظره بعينيه اللتين تكادان تنطقان بالعلم والحكمة.
لم يقتصر في دروسه على التلقين فقط، بل يهتم كثيرًا بالتأديب، وما أحوجنا إلى قليل من الأدب في زمان تجاوز فيه الأصاغر على الأكابر! وربما أغلظ العبارة على الطالب والسائل، وما قصده إلا التأديب.
ومما عُرف به شيخنا لين الجناب والتواضع مع الطرفة الجميلة، وما دخل عليه أحدٌ إلا لاطفه بأجمل عبارة، وسأل عن اسمه وقبيلته وبلده، ويتخلل ذلك من الطُّرَفِ ما يَسْكُن بها فؤاد الداخل، وكأنَّ شيخنا بذلك يهيئ الداخل ليسكن قلبه؛ فيثبت لسانه في السؤال، ويصغي قلبه لما أفتى به وقال.
الكلام في شيخنا - عليه رحمة الله تعالى - يطول، وما موته في زمن الغربة، وغلبة الجهل، وانتشار البدع والمنكرات إلا ثلمة عظيمة في جدار الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وأقول:
| رعَى اللهُ قَلْبِي والْعِيونَ البَوَاكِيَا
فَكَمْ فَارَقَتْ عَيْنِي مِنَ النَّاسِ صُحْبةً
وصَارُوا إلى الأجْدَاثِ مَا بَين لمَحَةٍ
فإنْ كَانَ حَرُّ الموتِ قَدْ حَلَّ مَرةً
فواهٍ عَلى حَرِّ الفِرَاقِ ولَيْسَ لِيْ
عَنَيتُ بِهِ فَخْرَ العُلُومِ ومَنْ لَهُ
هُوَ الشَّيخُ (عَبْدُاللهِ) لا غَابَ ذِكرُهُ
إمَامٌ جَلِيلٌ غيَّبَ الَموْتُ نجْمَهُ
بِمَوْتِ (الغُديَّانِ) ألا وَيَحَ مُهْجَتِي
فَيَبْكِي عَلَيِهِ اليوْمَ دَارٌ وَمَسْجِدٌ
وَيَبْكِي عَلَيِهِ كُلُّ شَيْخٍ وَعَالمٍ
وَيَبْكِى عَلِيه سَائرَ الدَّهْرِ طَالِبٌ
بِشْرحٍ لـ(مَنْقُولٍ) بِعِلْمٍ وَحِكْمَةٍ
وَتَبْكِي عَلِيهِ اليومَ أكْبَادُ أُسْرةٍ
وَتَبْكِي عَلَيهِ في دُجَى اللَّيلِ رَوْضَةٌ
فَسُبْحَانَ رَبٍّ بَاقٍ جَلَّ ذِكْرُهُ
فِللّهِ مَا شَاءَ وِللهِ مَا قَضَى
وَيَا رَبِّ يَا ذَا المنِّ والجُوْدِ وَالعَطَا
عَلى قَبْرِ شَيْخِ العِلْمِ وَالزُّهْدِ والتُّقَى
فَرُحْمَاكَ يَا رَبِّ بِشِيخِي وَزِدْ لَهُ
فَصَبْرَاً أُصِيْحَابِي عَــلى الموتِ والبلى | | وفي كِلّ يَومٍ يَأخذُ الموتُ غَالِيَا
وقَدْ شَيَّدُوا فِي الْقَلْبِ دَارَاً ونَادِيَا
ورَاحَتْ بِهِمْ رِيحُ المنَونِ العَواتِيَا
بِهِمْ، فَفَؤادي طِيلةُ الدّهرِ شَاكِيا
صَدِيقٌ عَلَى فَقْدِ الإمِامِ مُواسِيَا
مَقَامٌ عَلى عَرْشِ الكَرَامَةِ بَاقِيَا
إمِامٌ سَمَا في قِمَّةِ المجْدِ عَالِيَا
فَواهٍ لِنَجْمٍ صَارَ في الْقَبْرِ ثَاوِيَا
وقَدْ صَارَ بَيْتُ العِلْمِ للشَّيْخِ نَاعِيَا
وَمَجْلِسُ عِلْمٍ صَارَ مِن بَعْدُ خَالِيَا
فَلَنْ يَعْثُرُوا للشَّيْخِ حَتْماً مُسَامِيَا
وَقَدْ كَانَ مِنْ دَرْسِ (الغُديَّانِ) رَاوَيَا
وَتَبْيينِ (مَعْقُولٍ) لمنْ كَانَ غَاوِيَا
لَها كَانَ شَيْخُ العِلْمِ عَوْنَاً وَرَاعِيَا
بِهَا الشَّيخُ صَلّى خَاشِعَ القَلْبِ تَالِيَا
وَلا زَالَ أمْرُ الموْتِ بالنَّاسِ جَارِيَا
رَضِيْنَا بِمَا قَضَى وإنْ كُنْتُ بَاكِيَا
بَأبيْضَ هَطّالٍ مِنَ الغَرْبِ غَادِيَا
وَيجْرِي بِهِ في نَجْدِ شِعْبٌ وَوَادِيَا
مَنَ الأجْرِ واجْزِ خَيرَ مَا كُنْتَ جَازِيَا
رَعَى الله عَبْـــدَاً كَـــانَ بِاللهِ رَاضِيَا |
إلى آخر القصيدة. فأسأل الله تعالى أن يغفر لشيخنا عبدالله بن غديان، وأن يُعلي درجته في عليين، وأن يخلفه في عقبه في الغابرين، وأن يلحقه بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن يجمعنا بهم وبه في جنات النعيم، إخوانًا على سُرُر متقابلين. وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
بقلم: بدر بن علي بن طامي العتيبي
عضو الدعوة والإرشاد بمحافظة الطائف
Facebook
Twitter
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
حياك الله ، يشرفني تعليقك .