بسم الله
غلاة المدنية يعظمون "المعاني الذهنية" القائمة على النظر والفكر والرأي والتجريد وعويص المعاني ودقائق المفاهيم وإمكانيات الخطاب وثروة المفردات, ويفتحون لها الصوالين الفكرية والاستضافات الثقافية, ويتحدثون كثيراً عن "لذة المعرفة" ويتلذذون بها لذة حقيقية لا مصطنعة, ويملكهم العجب من المتمكنين في هذه الحقول المعرفية, ويجعلونها معيار التقييم في النظر إلى الناس والأفراد, وينزلون الناس منازلهم بحسب براعتهم في هذا الباب وحدة نظرهم.
أما "المعاني السلوكية" القائمة على تزكية النفوس, وتطهير إراداتها, ونهيها عن الهوى, وكفها عن الشهوات, وردعها عن غرائزها, ودقائق معاملة الله سبحانه وتعالى, وما يليق به سبحانه وما لا يليق به, والطريق إلى عبوديته, والإخبات بين يديه, والتضرع له سبحانه, وطول القنوت في محراب الافتقار, وسائر الشعائر ومقامات الإيمان ومدارج التعبد, فينظرون إليها باعتبارها قيمة شخصية لا يطربهم الحديث عنها والتنافس فيها, ولا يعجبهم إقحامها في المجالس.
وما ذاك إلا لأن القوم أصحاب نظر لا أصحاب عمل, وأصحاب ذهنيات لا أصحاب إرادات, فمنزلة العقل –الذي هو مَلِك الفهم- عندهم مقدمة على منزلة القلب –الذي هو ملك الجوارح- بل لا منزلة للقلب بجانب العقل أصلاً.
ولذلك فإن المعظم وصاحب الجاه عندهم ومن ينصاعون لسلطته وينحنون لرياسته ويتفانون في إكرامه وتوقيره وتبجيله والتباهي بلقائه إنما هو صاحب الباع في المعارف النظرية والذهنية والعقلية, ومن يملك القدرات الفكرية والإمكانيات الفلسفية.
أما ذلك الشخص التقي الذي حباه الله بالعلم به سبحانه وتعالى, وقوة الإرادة بالانكباب على عبوديته والاستعلاء على داعي الهوى والغريزة, والإقبال على كتابه, وإفناء الساعات في مناجاته, لكن ليس له باع في الذهنيات والمعارف العقلية فينظرون إليه كشخص بسيط ساذج, ويسمونه في كثير من الأحيان "درويشاً" استخفافاً به وزهداً في حاله, وفي أحيان كثيرة ينظرون إلى ربانيته واستغراقه في معاني العلم بالله سبحانه كتعبيرٍ عن فشله في المعارف الفكرية ودقائق النظر وأبواب العقليات.
وأصل هذه الحالة تعود إلى إشكالية فلسفية طرحت منذ أيام الفلسفة اليونانية ولا زالت حية كفلسفة ضمنية وإن كانت غير معلنة في شكل نظري منظم, وهذه الإشكالية الفلسفية يلخصها التساؤل التالي: (بماذا يكون كمال النفس الإنسانية؟)
والواقع أن الفلسفة اليونانية القديمة قدمت إجابة مبكرة على هذه الإشكالية لخصتها في عبارتها الدارجة وهي أن (كمال النفس الإنسانية يكون بالعلم بالمجهولات والإحاطة بالمعقولات).
والفلاسفة المتقدمون يتكلمون كثيراً عن أقسام اللذات وحقيقتها, وقد انتقل ذلك إلى علماء الكلام الإسلامي, وقد صنف عمدة متأخري الأشاعرة الإمام فخر الدين الرازي -صاحب مفاتيح الغيب والمحصول والمباحث المشرقية ونحوها مما أصبح مرجع كثير من المتأخرين- كتاباً تكلم فيه عن أقسام اللذات وجعلها ثلاثة أقسام, وذكر منها "اللذة العقلية" وشرح شيئاً من حقيقتها وأسبابها.
وهذه العبارة الفلسفية وهي كون (كمال النفس الإنسانية يكون بالعلم بالمجهولات والإحاطة بالمعقولات) تلقاها فلاسفة الإسلام المتقدمين كالفارابي وابن سينا ومن بعدهم عن الفلسفة اليونانية, وكثر تناقلهم وتداولهم لها بنصها كمسلمة فلسفية يبنى عليها ما بعدها.
ولا يزال جماهير المفكرين والمشتغلين بالشأن الفلسفي إلى اليوم يعظمون المعرفة المحضة والمعاني العقلية والعلمية المجردة ويرونها أعلى الكمالات, وينزلون صاحبها بحسب منزلته فيها وتضلعه منها, سواء كان هذا التصرف معلناً, أم تتم ممارسته بشكل منهجي منظم وإن كان غير مصرح به, فقيمة الإنسان داخل هذه النخب بحسب معرفته العقلية والمدنية.
وقد ناقش المحققون من علماء الشريعة هذه الفلسفة على ضوء أصول الوحي الإلهي, وكشفوا تعارض هذه الفلسفة مع المنظور القرآني لكمال النفس الإنسانية, حيث بنيت هذه الرؤية على أساسين, أولهما أن الكمال بمجرد العلم والمعرفة, وثانيهما أن أكمل العلوم هي المعارف العقلية والمدنية.
وهذان الأساسان كلاهما أساسان باطلان مصادمان لأصول الوحي, فأما الأساس الأول فإن الكمال في القرآن ليس بمجرد العلم ولكن بالعمل بالعلم, وأما الأساس الثاني فإن أكمل العلوم ليس المعارف العقلية والمدنية وإنما العلوم الإلهية بما تتضمنه من العلم بالله وكتبه والمعاد ونحوها من المعاني والمضامين الراقية السامية.
ويتلخص الرد على هذه الفلسفة كلها بآية واحدة من كتاب الله وهي قوله تعالى:
(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ, وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ)
فهذه الآية تضمنت جملتين أولهما بينت أشرف العلوم وهو العلم بالألوهية, وثانيهما بينت أشرف الأعمال وهو العبودية, ودلالة هذه الآية بطريقة ضرب الأمثال التي هي منهج القرآن في الدلالة والبيان.
وهذه الفكرة الفلسفية كان لها آثار ضخمة في بنية الفلسفة القديمة والحديثة, بل تكاد أن تجدها كالنواة الإبستيمية المضمرة في كثير من الأطروحات الفكرية المعاصرة, ولذلك قال الإمام ابن تيمية في درء التعارض:
(ونفس المقدمة الهائلة التي جعلوها غاية مطلوبهم وهو أن "كمال النفس في مجرد العلم بالمعقولات" مقدمة باطلة)
وقدم الإمام ابن تيمية ضمن مناقشته لهذه الفلسفة تحليلاً للأساسات الداخلية لهذه الفكرة, حيث يقول في درء التعارض:
(وضلالهم من وجوه: منها ظنهم أن الكمال في مجرد العلم, والثاني:ظنهم أن ما حصل لهم علم, والثالث:ظنهم أن ذلك العلم هو الذي يكمل النفس, وكل من هذه المقدمات كاذبة)
ثم أخذ في تفاصيل ذلك, والذي يعنينا الاشارة اليه هنا أنه نتيجةً لهذه الرؤية الضمنية في بنية خطاب غلاة المدنية فقد تراجعت قيمة العبودية وسلوكيات الفضيلة والعفة, ويشير الإمام ابن تيمية لذلك في الصفدية بقوله:
(فنفس عبادة الله وحده ومحبته وتعظيمه هو من أعظم كمال النفس وسعادتها, لا أن سعادتها في مجرد العلم الخالي عن حب وعبادة وتأله)
وعلى أية حال فإن منزلتي "النظر والعمل" كلاهما مطلبان شرعيان نبهت عليهما فاتحة الكتاب, ولم تأت الشريعة بذم أصلهما, ولكنها جاءت بتهذيبهما وتكميلهما, وتبيين مراتبهما, وإنما يقدم النظر مطلقاً جمهور الفلاسفة, ويقدم العمل مطلقاً جمهور الصوفية, وكلاهما لون من الانحراف, ولذلك قال الإمام ابن تيمية:
(وكل واحد من طريقي النظر والتجرد: طريق فيه منفعة عظيمة وفائدة جسيمة, بل كل منهما واجب لا بد منه, ولا تتم السعادة إلا به, والقرآن كله يدعو إلى النظر والاعتبار والتفكر, وإلى التزكية والزهد والعبادة, وقد ذكر القرآن صلاح القوة النظرية العلمية, والقوة الإرادية العملية, في غير موضع, كقوله تعالى{هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله} فالهدى كمال العلم, ودين الحق كمال العمل, وكقوله سبحانه أيضاً {أولي الأيدي والأبصار}) الفتاوى2/59
وهاهنا ملحظ طريف جداً من دقائق الحكمة الشرعية المتعاضدة مع الحكمة الكونية, ذلك أن الله سبحانه وتعالى قد ابتلى كل طائفة من عباده من جنس غريزتها وهواها المركوز فيها, فاختبرها الله شرعاً بما يوافق واقعها كوناً, فمن حباه الله بالقدرات العقلية الباذخة ابتلاه سبحانه وامتحنه بالاستسلام والانقياد والخضوع للوحي والعمل بما فيه إذ العمل شاق على أمثال هذه النفوس.
ومن آتاه الله قوة الإرادة اختبره الله سبحانه وتعالى باتباع البرهان والحجة وعدم المغالاة في الرهبنة تحقيقاً للذة روحية غريزية, إذ حبس النفس عن الاسترسال في الروحانيات فوق ما أمر الله شاق على أمثال هذه النفوس.
فابتلى الله الأذكياء وأصحاب العقول بحمل النفس إلى العبودية, وابتلى الله الروحانيين وأصحاب العبادة بحبس التعبد على هدي محمد صلى الله عليه وسلم واقتصاده وسنته, وقد نبهت على ذلك خاتمة الفاتحة بمثالي "المغضوب عليهم" و "الضالين" ودلت عليهما أبلغ دلالة على طريق ضرب المثل.
ومن تأمل هذه الإشكالية الفلسفية, واتجاهات الناس فيها نظرياً وعملياً, انكشف له سر ذلك الزهد العميق لدى غلاة المدنية في قيمة "التفقه في الوحي", في مقابل الشغف والتفاني في الاطلاع على "العلوم المدنية" وتعظيم صاحبها, بل جعل فقه الشريعة أدنى المراتب باعتباره لا يدرس أموراً معقولة ولا مدنية, وإنما قصاراه أن يدرس تفاصيل الأمور العملية, كما قال الإمام ابن تيمية في الصفدية:
(وأما العلم النظري فجعلوه هو الغاية, بناء على أن كمال النفس في العلم, فرأوا "الفقه" هو العلم العملي, فجعلوه أدنى المراتب)
وقد كشف لنا القرآن عن هذه النزوة البشرية, ونبهنا إلى أن ننظر إلى العلوم الإلهية باعتبارها أعظم من كل ما على الأرض من العلوم والمظاهر المدنية, بل ونبه ربنا على مقام "الفرح والاغتباط بالقرآن" كما في قوله تعالى في سورة يونس:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ, وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ, وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ, قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ, فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ, هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}
فجعل هذا "القرآن" من أعظم الممتلكات التي تستدعي الفرحة والسرور, كما قال ربنا تماماً في هذه الآية "فبذلك فليفرحوا".
وقد لاحظ القارئ الأول "أبي بن كعب" رضي الله هذا المعنى العظيم الذي تضمنته هذه الآية, فحين روى أبي بن كعب للتابعين قصته المعروفة التي جاء فيها أن الله سبحانه أمر نبيه محمداً أن يقرأ على أبي بن كعب سورة بعينها من القرآن, سأله التابعي الجليل عبدالرحمن بن أبزى قائلاً: (يا أبا المنذر، فَفَرحت بذلك؟) فقال أبي بن كعب: (وما يمنعني عن ذلك والله سبحانه يقول:"قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) كما خرجه أحمد في مسنده عنه.
ولذلك ذكر العلامة الراغب الأصفهاني أنه لم يرخّص في الفرح إلاّ في هذه الآية في سورة يونس!
وفي كثير من المواضع في القرآن يقارن تعالى بين قيمة الوحي وقيمة الممتلكات الدنيوية, وينبه المؤمنين بهذا الوحي إلى مضامينه أعظم مما يرونه من المظاهر الدنيوية كقوله تعالى:
(وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ, لاتَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ)
وسننتقل إلى إشكاليتين وثيقتي الصلة بتعظيم الذهنيات وهما التعليل المادي للشريعة والانفعال الوجداني بالوحي, وسنعالجهما في الفقرتين اللاحقتين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
حياك الله ، يشرفني تعليقك .