الاختلاط .. وانحناء القلوب
بسم الله الرحمن الرحيم ..
فقد تابعت ما يُطرح في مسألة "الاختلاط بين الجنسين" ونظرت فيما انتهى إلي فيه، وقرأت ما كتبه الشيخ العلامة عبدالرحمن بن ناصر البراك في هذه المسألة فرأيته لا يَخرج عن الحق لفظاً ولا معنى.
والحق مع وضوحه وجلائه قد يغيب عن طالبه لورع بارد تمكن منه، أو لغلبة مصلحة متوَهمة، أو لغياب نصٍ متفق عليه عملاً، لا يُحسن الناظر فيه تنزيله على بعض الصور والنوازل الداخلة فيه بأدنى تأمل، والعالم الصادق لا يَتهيب المخالفة قدر تهيبه القصور عن قول الحق الغائب والعمل به، ولو كان المخالف له منسوباً إلى الإصلاح والفقه، فأبو بكر الصديق رضي الله عنه قال في مانعي الزكاة قولاً غاب عن جمهور الصحابة وعلية الخلق بعد الأنبياء كعمر بن الخطاب رضي الله عنهم، فكان هذا نوعاً من الذهول العارض يؤوب معه الصادق عند بيانه كأوبة خير القرون خلف أبي بكر صفاً واحداً، فلا يُعاب على الذاهل ذهولاً عارضاً ذهوله ما آب، وإن حضره الدليل فحضور الدليل لا يتلازم مع تمكن الفهم وإصابة الحق، لأن إصابة الحق قد لا تحضر في ذهن الناقل ولو حمل النص بين جنبيه، ولهذا كان "شر الأمة آخر الزمان القراء"، كما في الحديث، وهذا في حملة نص القرآن، فكيف بحملة نص السنة.
وأدرك يقيناً أن كثيراً من العلماء الصادقين وهم يرون جلد الإعلام الشاذ في ترويض الاختلاط موزّعو العقل والقلب بين ما يؤمنون به وما يرون تحت بصرهم من الوحي الصادق والإجماع الثابت على حرمة الاختلاط في التعليم والعمل وبين ما يراد أن يُفعل، وقلّة حيلتهم استحكمت عليهم فلزموا الصمت، والصمت خيرٌ ولكن في غير هذا الموضع، لأن الساكت يُحمد إذا لم يُنسب إليه قول، وأما في حال نسبة القول إليهم فالسكوت عن قول الحق في معنى النطق بالباطل، وهذا ما وصف الله به اليهود قال الله تعالى: (سماعون للكذب أكالون للسحت) فجعل سمعهم الكذب وكذبهم سواء.
وأما من يخالف ما قاله الشيخ عبد الرحمن البراك بجهالةٍ، وهو خال القلب من نور الوحي، أو طال انحناء ظهره لسطوة الإعلام فطال أمده فظن أنه إنما خُلق أحدب الظهر، فاستروحت نفسه وجسده الانحناء، وتألمت مع القوام، فحاله لا تُغير ما خلق الله البشر عليه: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)، وللقلب انحناءة كانحناءة الجسد وقوام كقوامه.
وكثيراً ما يعجز حملة الأقلام عن التحرر من نيران الشبهات، ونصرة ما حقه النصرة، وخذلان ما حقه الخذلان، لقوة الإعلام في تقزيم عملاق وعملقة قزم، وتهيب إرهاب الإعلام بألفاظ مثل التشدد والغلو والتخلف، فتوءد الجسارة على قول الحق واعتقاده في قلوب الكثير.
والسكوت لا عبرة به في موازين الحق، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن السكوت سيصل حداً أبعد من تقرير مسألة الاختلاط، ولكن الحق حقٌ والباطل باطل، فيروى عند ابن حبان والحاكم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تفنى هذه الأمة حتى يقوم الرجل إلى المرأة فيفترشها في الطريق فيكون خيارهم يومئذٍ من يقول لو واريناها وراء هذا الحائط).
وما يضر الحق تسمية أهل الباطل إياه باطلاً، فضلاً عن سكوت الساكتين عنه .
ولتوضيح الرأي حول ما قاله الشيخ عبدالرحمن البراك فالحديث عنه من عدة جهات :
أولاً : بخصوص تحريم الاختلاط، فهذا مما لا يُخالف فيه أحدٌ من علماء الإسلام من سائر المذاهب المتبوعة ونص على الإجماع أئمة كثير، وقد بَسطت المسألة في كتاب "الاختلاط تحرير وتقرير وتعقيب" يَنبغي الرجوع إليها لمعرفة نصوص الشريعة وإجماع الأمة عبر القرون، ولا عبرة بمقالاتٍ تُنشر هنا وهناك لمنتسبي الفقه في القرن الخامس عشر.
ثانياً : وأما بشأن ما نص عليه الشيخ من تكفير المستحل مع إقراره واعتقاده بلزوم الاختلاط لبعض المحرمات القطعية معلومة التحريم في الإسلام ضرورة، فقد مثل الشيخ لبعضها (النظر المحرم والكلام الحرام والتبرج والسفور الحرام) وقد حكى الإجماع على كفر مستحلها غير واحد من العلماء في مواضع مختلفة كابن تيمية في "الفتاوي" (5/449) وابن مفلح في مواضع وخلق من فقهاء المذاهب الأربع.
فالاختلاط المقصود هو الاختلاط في التعليم والعمل، وأما الاختلاط العابر كالأسواق والمساجد والطرقات بلا ممازجة ومماسة فهذا يفعله الناس في كل العصور علماء وعامة لم يقصده أحدٌ في تحريم وإيراده على العلماء يدل على عدم معرفة بالنصوص وفعل القرون المفضلة أو تجاهل ومكابرة .
ثم إنه من المقطوع به في مسائل الاعتقاد أن من استحل المباح في ذاته اللازم لزوماً لا ينفك بأي حال عن المُحرم القطعي المعلوم من الدين بالضرورة، وأُقر الإنسان على هذا اللزوم فأقر به ومع ذلك يستحله، فحكمه كحكم مستبيح المُحرم القطعي أصلاً، لأنه لا يمكن أن ينفك الكفر عن لازمه القطعي ووسيلته التي لا توصل إلا إليه أو إلى غيره معه يقيناً، وهذا خاص باللازم القطعي لا باللازم الظني ولا الأغلبي، وهذا في الأمور معلومة الإباحة التي لم يرد فيها نص بذاتها بالتحريم، فكيف وقد جاءت النصوص وأجمعت الأمة على تحريم الاختلاط .
فمن قال: إن من دخل دار فلان فلا بد أن يفعل مُحرماً قطعياً كشرب الخمر مثلاً أو رؤية العُراة، يُلزم الداخلون جميعاً بلا استثناء من فعل المحرم القطعي، وغير الداخل معافى، ولا إكراه على الدخول، فمن عرف ذلك واستيقن حقيقة فعل الداخلين جميعاً للمحرم حيث لا ينفرد منهم أحد بمباح، ثم أباح الدخول للدار فهذه استباحة حرام قطعي، وإن حاول التفريق بين إباحة السبب والمحرم القطعي في مثل هذه الحال، فهذا جمع بين المتناقضات عقلاً وشرعاً للوصول لشهوة أو شبهة مقصودة، لا يختلف العلماء في ذلك .
ولهذا صح عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (من أتى كاهنا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد) رواه أحمد والترمذي وغيرهما، مع احتمال كون التصديق له لموافقة المحسوس .
ولو احترزت النصوص الشرعية لكل ما يُستثنى من النوادر، لما وُجد في الشريعة عموم، ولما صح إطلاق، والقرآن والسنة مليئان من ذلك، والعلماء يُفرقون بين نصوص الإطلاق، وقضايا الأعيان وتنزيل الأحكام عليها .
ويجب أن لا يغتر الناس بوَلع كثير من الكتاب بالاستنثاءات النادرة، والإلزام بها، فهذا من الورع البارد ليُدخلوا العامة في حُكم الأفراد المستثنتاة ليُعطلوا بذلك أحكام الإسلام العامة .
والمعلوم ضرورة أن من فعل المحرم كالزنا وشرب الخمر وأكل الربا والاختلاط في التعليم والعمل والخلوة مجرد فعلٍ بلا اعتقاد حلها فهذا مسلم مذنب عاصٍ أمره إلى الله لا يجوز الخوض في تكفيره إلا عند الخوارج، والكلام هنا على مسألة الاستحلال للمحرم وتحريم الحلال المقطوع به .
ولكون مسألة الاختلاط من المسائل المنصوصة وقد أجمع عليها العلماء ومن أسباب فعل المحرم المتيقن فمن استباحه مع يقينه أنه يحدث معه قطعاً أشياء محرمة فهو كمستبيح المحرم، وهذا ما قرره العلماء، وسُبق الشيخ البراك إلى ذلك من جمع من الأئمة بل حُكي الإجماع عليه .
فمن ذلك : ما قاله الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الله العامري (469-530هـ) في "أحكام النظر" (ص 285): ( ثم قد اتفقت علماء الأمة أن من اعتقد هذه المحظورات وإباحة امتزاج الرجال بالنسوان الأجانب فقد كفر واستحق القتل بردته، وإن اعتقد تحريمه وفعله وأقر عليه ورضي به فقد فسق لا يسمع قول ولا تقبل له شهادة ) انتهى .
ومن ذلك ما قاله أبو الفضل راشد ابن أبي راشد الوليدي المالكي (ت675) كما في "المعيار المعرب" (11/228) : ( وأما من غلب على ظنك أنه يعلم ذلك ويستبيحه - أي الاختلاط- فهذا كافر يجب جهاده إن قدرت بيدك أو بلسانك فإن لم تقدر فبقلبك ) انتهى .
ثالثاً : أن العلماء يطلقون كثيراً أحكام الحدود في كتب العقائد والفقه، والمتقرر عندهم بلا تقييد في كل موضع أن الذي يجب في حقه القيام بذلك هم ولاة الأمر، وهذا ما هو معروف عند علماء الإسلام وفقهائه في كل عصر ومنهم الشيخ البراك فكتبه وشروحه مليئة من تقرير هذا، وهذا ما نص عليه، الفقيه راشد ابن أبي راشد الوليدي كما سبق قال بعد بيان حُكم مبيح الاختلاط: ( وتغيير ذلك عليه مما يختص بالحاكم) انتهى .
هذا وجمع الله للأمة شملها، وحفظ لها دينها، والله أعلم وأحكم وصلى الله وسلم على نبينا محمد ومن اتبع .
--
للتأكيد :
للدخول إلى موقع لجينيات بشكل دائم الاعتماد على هذا العنوان في المفضلة وعدم الاعتماد على الأرقام التي تتغير تلقائيا بسبب الهجوم المتكرر :
http://www.lojainiat.com
لقد تلقيت هذه الرسالة لأنك مشترك في مجموعات Google مجموعة "
لجينيات التابع لموقع لجينيات".
لإرسال هذا إلى هذه المجموعة، قم بإرسال بريد إلكتروني إلى
lojainiatcom@googlegroups.com
لإلغاء الاشتراك في هذه المجموعة، ابعث برسالة إلكترونية إلى
lojainiatcom+unsubscribe@googlegroups.com
لخيارات أكثر، الرجاء زيارة المجموعة على
http://groups.google.com.sa/group/lojainiatcom?hl=ar
جزاك الله ياشيوخنا, الله يثبتكم على الحق
ردحذف